قال المصنف رحمه الله: [وكذلك أيضاً يقولون: إن الصفات لا تقوم إلا بجسم متحيز، والأجسام متماثلة، فلو قامت به الصفات للزم أن يكون مماثلاً لسائر الأجسام، وهذا هو التشبيه.
وكذلك يقول هذا كثير من الصفاتية الذين يثبتون الصفات، وينفون علوه على العرش، وقيام الأفعال الاختيارية به، ونحو ذلك].
وهذا هو ما يعرض في كلام بعض المتأخرين من المتكلمين، الذين استعملوا ما يسمونه بالدليل المركب في صفات الأفعال، وإن كنت لا أحب أن أسميهم هنا؛ لأنهم حقيقة يضطربون في تقرير هذا الأمر، فمثلاً: نجد أن الرازي مرة يقرر أن هذه مسألة معلومة بالسمع، ويجعل السمع هو دليل الإجماع، ومرة يجعلها معلومة بالعقل، وقد سبق التنبيه إلى أن من يريد أن يحكم على الطوائف فلا ينبغي أن يكون حكمه مبنياً على جملة عرضت في بعض كلامهم؛ بل لابد أن يكون بصيراً بحقيقة أقوالهم، وحتى لو حكوا الإجماع، فإنه أحياناً يحكي بعض المتكلمين إجماع طائفة من الطوائف، أو إجماع الطائفة عندهم على قول، فلا يلزم أن يكون الأمر كذلك؛ بل قد يكون في الأمر كثير من الخلاف عندهم.
قال المصنف رحمه الله: [فيقولون: الصفات قد تقوم بما ليس بجسم، وأما العلو على العالم فلا يصح إلا إذا كان جسماً، فلو أثبتنا علوه للزم أن يكون جسماً، وحينئذ فالأجسام متماثلة، فيلزم التشبيه].
وعن هذا التفريق الذي زعموه بالعقل أثبتوا ما يسمى بالصفات العقلية؛ كالعلم، والحياة، والسمع، والبصر، ونحوها، ونفوا الصفات الفعلية التي يسمونها: حلول الحوادث، وغلاتهم -أعني غلاة متكلمة الصفاتية- نفوا ما يتعلق بعلو الرب سبحانه وتعالى، وجعلوا الموجب لنفي علوه من جنس الموجب لنفي صفة الفعل في حقه سبحانه وتعالى، أي: أنهم جعلوا هذا مستلزماً للتشبيه والتجسيم.
أبو المعالي الجويني:
قال المصنف رحمه الله: [فلهذا تجد هؤلاء يسمون من أثبت العلو ونحوه مشبهاً، ولا يسمون من أثبت السمع والبصر والكلام ونحوه مشبهاً، كما يقوله صاحب الإرشاد وأمثاله].
صاحب الإرشاد هو أبو المعالي الجويني، صنف كتاب الشامل، وصنف كتاب الإرشاد، وسماه: الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، وهو -أي: أبو المعالي الجويني إمام الحرمين- من فقهاء الشافعية، وهو أصولي معروف في علم الأصول على الطريقة الكلامية، وهو منتحل لمذهب أبي الحسن الأشعري، ولكنه ممن عدل في هذا المذهب كثيراً؛ فإنه شرد بهذا المذهب إلى نوع من طريقة المعتزلة.