ومن
ثم اتفق على أنه يجوز أن يواتي المكره على الكفر إبقاء لمهجته والأفضل والأولى أن يثبت المسلم على دينه ولو أفضى إلى قتله.
وعند ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن حذافة السهمي أحد الصحابة -رضي الله عنهم- أنه أسرته الروم فجاؤوا به إلى ملكهم فقال له: تنصر وأنا أشركك في ملكي وأزوّجك ابنتي فقال له: لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملك العرب على أن أرجع عن دين محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طرفة عين ما فعلت فقال: إذًا أقتلك. قال أنت وذاك. قال: فأمر به فصلب وأمر الرماة فرموه قريبًا من يديه ورجليه وهو يعرض عليه دين النصرانية فيأبى ثم أمر به فأنزل ثم أمر بقدر، وفي رواية ببقرة من نحاس فأحميت وجاء بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر فإذا هو عظام يلوح وعرض عليه فأبى فأمر به أن يلقى فيها فرفع في البكرة ليلقى فيها فبكى فطمع فيه ودعاه فقال: إني إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة تلقى في هذا القدر الساعة في الله فأحببت أن يكون لي بعدد كل شعرة فى جسدي نفس تعذب هذا العذب في الله، وروي أنه قبّل رأسه وأطلقه وأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده، فلما رجع قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة وأنا أبدأ فقام فقبل رأسه.
({ولكن من شرح بالكفر صدرًا}) أي طاب نفسًا وأعتقده ({فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم}) [النحل: 106] في الدار الآخرة لأنهم ارتدوا عن الإسلام للدنيا.
(وقال) جل وعلا في سورة آل عمران: ({إلاّ أن تتقوا منهم تقاة}) [آل عمران: 28] قال البخاري آخذًا من كلام أبي عبيدة (وهي تقية) أي إلا أن تخافوا من جهة الكافرين أمرًا تخافون أي إلا أن يكون للكافر عليك سلطان فتخافه على نفسك ومالك فحينيذٍ يجوز لك إظهار الموالاة وإبطال المعاداة.
(وقال) تعالى في سورة النساء: ({إن الذين توفاهم الملائكة}) ملك الموت وأعوانه وتوفاهم ماض أو مضارع أصله تتوفاهم حذفت ثانية تاءيه ({ظالمي أنفسهم}) حال من ضمير المفعول في توفاهم أي في حال ظلمهم أنفسهم بالكفر وترك الهجرة ({قالوا}) أي الملائكة توبيخًا لهم ({فيم كنتم}) في أي شيء كنتم من أمر دينكم ({قالوا كنا مستضعفين}) عاجزين عن الهجرة ({في الأرض}) [النساء: 97] أرض مكة أو عاجزين عن إظهار الدين وإعلاء كلمته (إلى قوله: {واجعل لنا من لدنك نصيرًا}) [النساء: 75] كذا في رواية كريمة والأصيلي والقابسي ولا يحض ما فيه من التغيير لأن قوله: {واجعل لنا من لدنك نصيرًا} من آية أخرى متقدمة على الآية المذكورة والصواب، ما وقع في رواية أبي ذرلى قوله: {عفوا غفورًا} [النساء: 99] أي لعباده قبل أن يخلقهم. وقال تعالى: ({والمستضعفين}) مجرور بالعطف على في سبيل الله أي في سبيل الله، وفي خلاص المستضعفين أو منصوب على الاختصاص أي واختص من سبيل الله خلاص المستضعفين لأن سبيل الله عام في كل خير وخلاص المستضعفين من المسلمين من أيدي الكفار من
أعظم الخير وأخصه والمستضعفون هم الذين أسلموا بمكة وصدّهم المشركون عن الهجرة فبقوا بين أيديهم مستضعفين يلقون منهم الأذى التشديد من الرجال والنساء والولدان بيان للمستضعفين وإنما ذكر الولدان مبالغة في الحث وتنبيهًا على تناهي ظلم المشركين بحيث بلغ أذاهم الصبيان إرغامًا لآبائهم وأمهاتهم وعن ابن عباس كنت أنا وأمي من المستضعفين من النساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها الظالم وصف للقرية إلا أنه مسند إلى أهلها فأعطي أعراب القرية لأنه صفتها {واجعل لنا من لدنك وليًّا} [النساء: 75] يتولى أمرنا ويستنقذنا من أعدائنا ({واجعل لنا من لدنك نصيرًا}) [النساء: 75] ينصرنا عليهم فاستجاب الله دعاءهم بأن يسر لبعضهم الخروج إلى المدينة وجعل لمن بقي منهم وليًّا وناصرًا ففتح مكة على نبيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فتولاهم ونصرهم ثم استعمل عليهم عتاب بن أسيد فحماهم ونصرهم حتى صاروا أعز أهلها (فعذر الله المستضعفين الذين لا يمتنعون من ترك ما أمر الله به) إلا أن غلبوا (والمكره)