وخير العمل ما داوم عليه صاحبه انتهى.
فالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإن أعطي قوى الخلق في العبادات لكن قصده التشريع وتعليم أمته الطريق التي لا يمل بها صاحبها. وقال ابن المنير: إن هؤلاء بنوا على أن الخوف الباعث على العبادة ينحصر في خوف العقوبة فلما علموا أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مغفور له ظنوا أن لا خوف وحملوا قلة العبادة على ذلك، فردّ عليه الصلاة والسلام عليهم ذلك وبيّن أن لا خوف الإجلال أعظم من الإكثار المحقق الانقطاع لأن الدائم وإن قل أكثر من الكثير إذا انقطع وفيه دليل على صحة مذهب القاضي حيث قال: لو أوجب الله شيئًا لوجب وإن لم يتوعد بعقوبة على تركه وهو مقام الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التعبد على الشكر وعلى الإجلال لا على خوف العقوبة فإنه منه في عصمة.
(لكني) استدراك من محذوف دلّ عليه السياق تقريره أنا وأنتم بالنسبة إلى العبودية سواء لكن أنا (أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوّج النساء فمن رغب) أعرض (عن سُنّتي) طريقتي وتركها (فليس مني) إذا كان غير معتقد لها والسُّنَّة مفرد مضاف يعم على الأرجح فيشمل الشهادتين وسائر
أركان الإسلام فيكون المعرض عن ذلك مرتدًّا وكذا إن كان الإعراض تنطعًا يفضي إلى اعتقاد أرجحية عمله، وأما إن كان ذلك بضرب من التأويل كالورع لقيام شبهة في ذلك الوقت أو عجزًا عن القيام بذلك أو لمقصود صحيح فيعذر صاحبه.
وفيه الترغيب في النكاح، وقد اختلف هل هو من العبادات أو المباحات فقال الحنفية: هو سُنّة مؤكدة على الأصح. وقال الشافعية: من المباحات. قال القمولي في شرح الوسيط المسمى بالبحر في باب النكاح فرع نص الإمام على أن النكاح من الشهوات لا من القربات. وإليه أشار الشافعي في الأم حيث قال: قال الله تعالى: {زين للناس حبِّ الشهوات من النساء} [آل عمران: 14] وقال عليه الصلاة والسلام: "حبب إليَّ من دنياكم الطيب، والنساء"، وابتغاء النسل به، أمر مظنون ثم لا يدري أصالح أم طالح انتهى.
وقال النووي: إن قصد به طاعة كاتباع السُّنّة أو تحصيل ولد صالح أو عفة فرجه أو عينه فهو من أعمال الآخرة يُثاب عليه وهو للتائق أي المحتاج له ولو خصيًا القادر على مؤونة أفضل من التخلي للعبادة تحصينًا للدين ولما فيه من إبقاء النسل والعاجز عن مؤونة يصوم والقادر غير التائق إن تخلى للعبادة فهو أفضل من النكاح وإلا فالنكاح أفضل له من تركه لئلا تُفضي به البطالة الى الفواحش انتهى.
وقد تعقب الشيخ كمال الدين بن الهمام قولهم التخلي للعبادة أفضل فقال: حقيقة أفضل تنفي كونه مباحًا إذ لا فضل في المباح والحق أنه إن اقترن بنيّة كان ذا فضل والتجرّد عند الشافعي أفضل لقوله تعالى: {وسيدًا وحصورًا} [آل عمران: 39] مدح يحيى عليه السلام بعدم إتيان النساء مع القدرة عليه لأن هذا معنى الحصور وحينئذٍ فإذا استدل عليه بمثل قوله عليه الصلاة والسلام: "أربع من سنن المرسلين. الحياء، والتعطر، والسواك، والنكاح" رواه الترمذي وقال حسن غريب. فله أن يقول في الجواب لا أنكر الفضيلة مع حسن النيّة، وإنما أقول التخلي للعبادة أفضل فالأولى في جوابه التمسك بحاله عليه الصلاة والسلام في نفسه ورده على من أراد من أمته التخلي للعبادة فإنه صريح في عين المتنازع فيه يعني حديث هذا الباب، فإنه عليه الصلاة والسلام رد هذا الحال ردًّا مؤكدًا حتى تبرأ منه، وبالجملة فالأفضلية في الاتباع لا فيما تخيل النفس أنه أفضل نظرًا إلى ظاهر عبادة أو توجه ولم يكن الله عز وجل يرضى لأشرف أنبيائه إلا بأشرف الأحوال وكان حاله إلى الوفاة النكاح فيستحيل أن يقرّه على ترك الأفضل مدة حياته، وحال يحيى عليه السلام كان أفضل في تلك الشريعة، وقد نسخت الرهبانية في ملتنا ولو تعارضا قدم التمسك بحال نبينا عليه الصلاة والسلام، ومن تأمل ما يشتمل عليه النكاح من تهذيب الأخلاق وتربية الولد والقيام بمصالح المسلم العاجز عن القيام بها وإعفاف المحرم ونفسه ودفع الفتنة عنه وعنهنّ إلى غير ذلك من الفرائض