في موضعه من هذا الشرح بتوفيق الله تعالى ومعونته. والذي في البخاري من هذه الأقسام مائة حديث وعشرة أحاديث شاركه في كثير منها مسلم لا نطيل بسردها، وأما الجواب عمن طعن فيه من رجال البخاري فليعلم أن تخريج صاحب الصحيح لأيّ راوٍ كان مقتضٍ لعدالته عنده وصحة ضبطه وعدم غفلته مع ما انضاف لذلك من إطباق جمهور الأمة على تسمية الكتابين بالصحيحين، وهذا معنى لم يحصل لغير من خرج عنه في الصحيحين، فهو بمثابة إطباق الجمهور على تعديل من ذكر فيهما، ولا يقبل الطعن في أحد من رواتهما إلا بقادح واضح، لأن أسباب القدح كما مرّ مختلفة، ومداره هنا على خمسة: البدعة أو المخالفة أو الغلط أو جهالة الحال أو دعوى الانقطاع بالسند بأن يدعي في راويه أنه كان يدلس ويرسل.

فأما البدعة فالموصوف بها إن كان غير داعية قبل وإلاّ فلا، وقال ابن دقيق العيد إن وافق غير الداعية غيره فلا يلتفت إليه إخمادًا لبدعته وإطفاء لناره، وإن لم يوافقه أحد، ولم يوجد ذلك الحديث إلا عنده مع كونه صادقًا متحررًا عن الكذب مشهورًا بالتدين، وعدم تعلق ذلك الحديث ببدعته، فينبغي أن تقدم مصلحة تحصيل ذلك الحديث ونشر تلك السنة على مصلحة إهانته.

وأما المخالفة وينشأ عنها الشذوذ والنكارة، فإذا روى الضابط والصدوق شيئًا فرواه من هو أحفظ منه أو أكثر عددًا بخلاف ما روى، بحيث يتعذر الجمع على قواعد المحدثين فهذا شاذ، وقد تشتد المخالفة أو يضعف الحفظ فيحكم على ما يخالف فيه بكونه منكرًا وهذا ليس في الصحيح منه سوى نزر يسير.

وأما الغلط فتارة يكثر من الراوي وتارة يقل، فحيث يوصف بكونه كثير الغلط ينظر فيما أخرج له إن وجد مرويًّا عنده أو عند غيره من رواية غير هذا الموصوف علم أن المعتمد أصل الحديث لا خصوص هذه الطريق، وإن لم يوجد إلاّ من طريقه فهو قادح يوجب التوقف عن الحكم بصحة ما هذا سبيله وليس في الصحيح بحمد الله من ذلك شيء.

وأما الجهالة فمندفعة عن جميع من أخرج لهم في الصحيح، لأن شرط الصحيح أن يكون راويه معروفًا بالعدالة، فمن زعم أن أحدًا منهم مجهول فكأنه نازع المصنف في دعواه أنه معروف، ولا ريب أن المدعي لمعرفته مقدّم على من يدعي عدم معرفته لما مع الثبت من زيادة العلم، ومع ذلك فلا نجد في رجال الصحيح ممن يسوغ إطلاق اسم الجهالة عليه أصلاً.

وأما دعوى الانقطاع فمدفوعة عمن أخرج لهم البخاري لما علم من شرطه، ولا نطيل بسرد أسمائهم ورد ما قيل فيهم.

وأما بيان موضوعه وتفرّده بمجموعه وتراجمه البديعة المثال النيعة المنال، فاعلم أنه رحمه الله تعالى قد التزم مع صحة الأحاديث استنباط الفوائد الفقهية والنكت الحكمية، فاستخرج بفهمه الثاقب من المتون معاني كثيرة فرقها في أبوابه بحسب المناسبة، واعتنى فيها بآيات الأحكام وانتزع منها الدلالات البديعة وسلك في الإشارات إلى تفسيرها السبل الوسيعة، ومن ثم أخلى كثيرًا من الأبواب عن ذكره إسناد الحديث، واقتصر فيه على قوله فلان عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ونحو ذلك، وقد يذكر المتن بغير إسناد وقد يورده معلقًا لقصد الاحتجاج لما ترجم له وأشار للحديث لكونه معلومًا أو سبق قريبًا، ويقع في كثير من أبوابه أحاديث كثيرة وفي بعضها حديث واحد وفي بعضها آية من القرآن فقط وبعضها لا شيء فيه البتّة. وقد وقع في بعض نسخ الكتاب ضم باب لم يذكر فيه حديث، إلى حديث لم يذكر فيه باب، فاستشكله بعضهم، لكن أزال الإشكال الحافظ أبو ذر الهروي بما رواه عن الحافظ أبي إسحق المستملي، مما ذكره أبو الوليد الباجي بالموحدة والجيم في كتابه أسماء رجال البخاري، قال: استنسخت كتاب البخاري من أصله الذي كان عند الفربري فرأيت أشياء لم تتم وأشياء مبيضة، منها تراجم لم يثبت بعدها شيئًا وأحاديث لم يترجم لها، فأضفنا بعض ذلك إلى بعض. قال الباجي: ومما يدل على صحة ذلك أن رواية المستملي والسرخسي والكشميهني وأبي زيد المروزي مختلفة بالتقديم والتأخير، مع أنهم استنسخوها من أصل واحد، وإنما ذلك بحسب ما قد رأى كل واحد منهم فيما كان

طور بواسطة نورين ميديا © 2015