فإن أمكن الجمع بأن يكون الحديث عند ذلك الراوي على الوجهين جميعًا فأخرجهما المصنف ولم يقتصر على أحدهما، حيث يكون المختلفون متعادلين في الحفظ والعدد كما في البخاري في بدء الخلق من حديث إسرائيل عن الأعمش ومنصور جميعًا عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله، قال: "كنّا مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في غار فنزلت والمرسلات" قال الدارقطني لم يتابع إسرائيل عن الأعمش عن علقمة، أما عن منصور فتابعه شيبان عنه، وكذا رواه مغيرة عن إبراهيم عنه انتهى. وقد حكى البخاري الخلاف فيه وهو تعليل لا يضر، وإن امتنع الجمع بأن يكون المختلفون غير متعادلين بل متفاوتين في الحفظ والعدد، فيخرج المصنف الطريق الراجحة ويعرض عن الطريق المرجوحة أو يشير إليها، والتعليل بجميع ذلك من أجل مجرد الاختلاف غير قادح، إذ لا يلزم من مجرد الاختلاف اضطراب يوجب الضعف، وحينئذ فينتفي الاعتراض عما هذا سبيله، وفي البخاري في الجنائز من هذا الثاني حديث الليث عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب عن جابر: أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يجمع بين قتلى أُحُد ويقدم أقرأهم. قال الدارقطني رواه ابن المبارك عن الأوزاعي عن الزهري مرسلاً، ورواه معمر عن الزهري عن ابن أبي صعير عن جابر، ورواه سليمان بن كثير عن الزهري حدّثني من سمع جابرًا وهو حديث مضطرب انتهى، قال الحافظ ابن حجر: أطلق الدارقطني القول بأنه مضطرب مع إمكان نفي الاضطراب عنه بأن يفسر المبهم بالذي في رواية الليث، وتحمل رواية معمر على أن الزهري سمعه من شيخين. وأما رواية الأوزاعي المرسلة فقصر فيها بحذف الواسطة، فهذه طريقة من ينفي الاضطراب عنه، وقد ساق البخاري ذكر الخلاف فيه، وإنما أخرج رواية الأوزاعي مع انقطاعها لأن الحديث عنده عن عبد الله بن المبارك عن الليث والأوزاعي جميعًا عن الزهري، فأسقط الأوزاعي عبد الرحمن بن كعب وأثبته الليث وهما في الزهري سواء، وقد صرّحا بسماعهما له منه، فقيل زيادة الليث لثقته، ثم قال بعد ذلك ورواه سليمان بن كثير عن الزهري عمن سمع جابرًا، وأراد بذلك إثبات الواسطة بين الزهري وبين جابر فيه في الجملة، وتأكيد رواية الليث بذلك، ولم نرها علة توجب اضطرابًا. وأما رواية معمر فقد وافقه عليها سفيان بن عيينة فرواه عن الزهري عن ابن أبي صعير، وقال ثبتني فيه معمر فرجعت روايته إلى رواية معمر.

ثالثها: ما تفرد بعض الرواة بزيادة فيه دون من هو أكثر عددًا أو أضبط ممن لم يذكرها، فهذا لا يؤثر التعليل به إلا إن كانت الزيادة منافية بحيث يتعذر الجمع، أما إذا كانت الزيادة لا منافاة فيها بحيث تكون كالحديث المستقل فلا نعم إن صح بالدلائل أن تلك الزيادة مدرجة من كلام بعض رواته فيؤثر ذلك.

رابعها: ما تفرّد به بعض الرواة ممن ضعف منهم، وليس في البخاري من ذلك غير حديثين، وقد توبعا أحدهما حديث أُبي بن عباس بن سهل بن سعد عن أبيه عن جدّه قال: كان للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فرس يقال له اللخيف. قال الدارقطني هذا ضعيف انتهى. وهو ابن سعد الساعدي الأنصاري الذي ضعفه أحمد وابن معين، وقال النسائي ليس بالقوي، لكن تابعه عليه أخوه عبد المهيمن بن عباس وروى له الترمذي وابن ماجة، وثانيهما في الجهاد من البخاري في باب: إذا أسلم قوم في دار الحرب. حديث إسماعيل بن أبي أويس عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه، أن عمر استعمل مولى له يسمى هنيًا على الحمى الحديث بطوله، قال الدارقطني إسماعيل ضعيف. قال الحافظ ابن حجر أظن أن الدارقطني إنما ذكر هذا الموضع من حديث إسماعيل خاصة وأعرض عن الكثير من حديثه عند البخاري، لكون غيره شاركه في تلك الأحاديث وتفرد بهذا، فإن كان كذلك فلم ينفرد بل تابعه عليه معن بن عيسى فرواه عن مالك كرواية إسماعيل سواء.

خامسها: ما حكم فيه بالوهم على بعض رواته فمنه ما يؤثر ومنه ما لا يؤثر.

سادسها: ما اختلف فيه بتغيير بعض ألفاظ المتن، فهذا لا يترتب عليه قدح لإمكان الجمع في المختلف من ذلك أو الترجيح، كحديث جابر في قصة الجمل وحديثه في وفاء دين أبيه، وحديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين. وربما يقع التنبيه على شيء من هذه الأقسام

طور بواسطة نورين ميديا © 2015