وأشهد على الصلح رجالاً من المسلمين منهم أبو بكر وعمر وعليّ ورجالاً من المشركين منهم مكرز بن حفص (قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأصحابه): (قوموا فانحروا) الهدي (ثم احلقوا) رؤوسكم (قال فوالله ما قام منهم رجل) رجاء نزول الوحي بإبطال الصلح المذكور ليتم لهم قضاء نسكهم أو لاعتقادهم أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور (حتى قال) عليه السلام لهم (ذلك ثلاث مرات فلما لم يقم منهم أحد دخل) عليه السلام (على أم سلمة) -رضي الله عنها- (فذكر لها ما لقي من الناس) من كونهم لم يفعلوا ما أمرهم به (فقالت أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك)؟ وعند ابن إسحاق قالت أم سلمة: يا رسول الله لا تلمهم فإنهم قد دخلهم أمر عظيم مما أدخلت على نفسك من المشقّة في أمر الصلح ورجوعهم بغير فتح ويحتمل أنها فهمت من الصحابة أنه احتمل عندهم أن يكون النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمرهم بالتحلّل أخذًا بالرخصة في حقهم وأنه هو يستمر على الإحرام أخذًا بالعزيمة في حق نفسه فأشارت عليه أن يتحلل لينفي عنهم هذا الاحتمال فقالت: (اخرج ثم لا تكلم أحدًا منهم كلمة حتى تنحر بدنك) بضم الموحدة وسكون المهملة (وتدعو حالقك) بنصب الفعل عطفًا على الفعل المنصوب قبله (فيلحقك فخرج) عليه الصلاة والسلام (فلم يكلم أحدًا منهم حتى فعل ذلك نحر بدنه) بضم الموحدة وسكون المهملة وكانوا سبعين بدنة فيها جمل لأبي جهل في رأسه برّة من فضة ولأبي ذر عن الكشميهني هديه (ودعا حالقه) هو خراش بمعجمتين ابن أمية بن الفضل الخزاعي الكعبي (فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا) هديهم ممتثلين ما أمرهم به إذ لم تبق بعد ذلك غاية تنتظر (وجعل بعضهم يحلق بعضًا حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا غمًّا) أي
ازدحامًا وفيه فضيلة أم سلمة ووفور عقلها، وقد قال إمام الحرمين في النهاية: قيل ما أشارت امرأة بصواب إلا أم سلمة في هذه القضية.
(ثم جاءه) عليه الصلاة والسلام (نسوة مؤمنات) بعد ذلك في أثناء مدة الصلح (فأنزل الله تعالى: {يا أيها الذين أمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات}) نصب على الحال ({فامتحنوهن}) فاختبروهن بما يغلب على ظنكم موافقة قلوبهن (حتى بلغ {بعصم الكوافر}) [الممتحنة: 10] بما تعتصم به الكافرات من عقد ونسب جمع عصمة والمراد نهي المؤمنين عن المقام على نكاح المشركات وبقية الآية {الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار} أي إلى أزواجهن الكفرة لقوله: {لا هنّ حلٌّ لهم ولا هم يحلُّون لهنّ وآتوهم ما أنفقوا} أي ما دفعوا إليهن من المهور، وهذه الآية على رواية لا يأتيك منّا أحد وإن كان على دينك إلا رددته تكون مخصصة للسنة وهذا من أحسن أمثلة ذلك وعلى طريقة بعض السلف ناسخة من قبيل نسخ السنة بالكتاب، أما على رواية: لا يأتيك منا رجل فلا إشكال فيه.
(فطلق عمر) -رضي الله عنه- (يومئذٍ امرأتين) قريبة بنت أبي أمية وابنة جرول الخزاعي كما في الرواية التالية (كانتا له في الشرك) لقوله تعالى في الآية {لا هنّ حِلٌّ لهم ولا هم يحلُّون لهنّ} [الممتحنة: 10] وقد كان ذلك جائزًا في ابتداء الإسلام (فتزوّج إحداهما) وهي قريبة (معاوية بن أبي سفيان والأخرى صفوان بن أمية) وفي الرواية اللاحقة وتزوج الأخرى أبو جهم.
(ثم رجع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى المدينة فجاءه أبو بصير) بفتح الموحدة وكسر الصاد المهملة (رجل من قريش) بدل من أبو بصير ومعنى كونه من قريش أنه منهم بالحلف وإلاّ فهو ثقفي واسمه عتبة بضم العين المهملة وسكون الفوقية ابن أسيد بفتح الهمزة على الصحيح ابن جارية بالجيم الثقفي حليف بني زهرة وبنو زهرة من قريش (وهو مسلم) جملة حالية (فأرسلوا) أي قريش (في طلبه رجلين) هما خنيس بخاء معجمة مضمومة ونون مفتوحة آخره سين مهملة مصغرًا ابن جابر وأزهر بن عوف لزهريّ إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فقالوا العهد الذي جعلت لنا) يوم الحديبية أن ترد إلينا من جاء منا وإن كان على دينك وسألوه أن يردّ إليهم أبا بصير كما وقع في الصلح (فدفعه) عليه السلام (إلى الرجلين) وفاء بالعهد (فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد