لأنه إذا قطع عن التبعية لما قبله لا يصح الرجعة بعدها، أنت قطعت فكيف ترجع؟ إذا قلت: بسم الله الرحمنُ: خبر المبتدأ المحذوف، ثم تقول: الرحيمِ على أنه نعت للفظ الجلالة، قالوا: هذا فيه نكارة؛ فلذلك منعوه، ولعدم السماع هذا الأصل .. الأصل فيه الاحتجاج في اللغة السماع وعدمه، فما سمع على جهة الطرد والعموم حينئذٍ صح أن يجعل قاعدة، وما سمع مخالفاً لهذه القواعد المطردة حينئذٍ يحكم عليه بأنه شاذ عند البصريين، ويجعل جوازاً عند الكوفيين، وما لم يسمع حينئذٍ يرد أو ترد مسألة: هل تثبت اللغة بالقياس أو لا؟ فمنهم من منع ومنهم من جوز.
قال رحمه الله تعالى:
قَالَ مُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ مَالِكِ ... أَحْمَدُ رَبِّي اللهَ خَيْرَ مَالِكِ
قَالَ: هذا فعل ماضي .. فعل ماضي من حيث اللفظ، وأما من حيث المعنى: فهو مضارع، لماذا؟ لأن العرب جرت أنها قد تستعمل الماضي بمعنى المستقبل، والمستقبل هذا شأن وحق الفعل المضارع: ((أَتَى أَمْرُ اللَّهِ)) [النحل:1] أتى: فعل ماضي، وأمر: هذا فاعل، ((أَتَى أَمْرُ اللَّهِ)) [النحل:1] قيام الساعة، هل أتت؟ الجواب: لا، لماذا استعمل هنا الماضي موضع المضارع؟
أولاً: ما الدليل من هذه الآية على أنه استعمل الماضي موقع أوموضع المضارع، قوله تعالى: ((فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ)) [النحل:1] أتى: فعل ماضي، هذا الأصل، والفعل الماضي يدل على حدث وقع وانقطع في الزمن الذي مضى، حينئذٍ قوله: ((فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ)) [النحل:1] لشيء مضى أو لشيء مستقبل؟ الثاني، فدل على أن أتى هذا فعل ماضٍ لفظاً، مضارع أو مستقبل معنى.
ولذلك سيأتي أن الفعل الماضي ثلاثة أنواع:
1 - ماٍضٍ لفظاً ومعنىً، مثل: قام زيد أمس، قام: فعل ماضي، في اللفظ والمعنى؟ نقول: نعم، في اللفظ والمعنى، ما الذي أكد لنا أن المعنى هنا مراد به الماضي؟ قوله: أمس، هذا مقطوع به، قد يستعمل الفعل الماضي فيكون لفظاً ماضياً، ومن حيث المعنى مستقبلاً، وهو الذي معنا الآن، قال: أي: يقول، أو سيقول، ومنه: ((أَتَى أَمْرُ اللَّهِ)) [النحل:1] .. ((فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ)) [النمل:87] .. ((وَنُفِخَ فِي الصُّورِ)) [الكهف:99] نفخ في الصور؟ ما نفخ بعد.
إذاً: عبر بالماضي هنا مراداً به الاستقبال:
ومنه ماض عن مضارع وضع ... لكونه محققاً نحو فزع
الفائدة أنه إذا عبر بالماضي عن المستقبل: النفس لا تؤمن بالمستقبل كإيمانها بما وقع وحدث، أليس كذلك؟ بلى، لا تؤمن ولا تصدق ولا تجزم بحدث سيقع، إذا قال لك: أعطيتك درهماً، هل هو مثل: سأعطيك درهماً؟ سأعطيك بالمستقبل، قد يكون بالكلام ولا يكون فعلاً بالفعل، حينئذٍ ليس ثم اتصال بين المستقبل والماضي، إذا أريد تحقق وقوع المستقبل كأنه مشاهد وقد وقع وحصل حينئذٍ يعبر عن ذلك المعنى بالفعل الماضي: ((فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ)) [النمل:87] ففزع ونفخ، لماذا عُبِّرَ في هذه الآيات بالفعل الماضي؟ نقول: من أجل أن يكون الإيمان بها يقيناً كأنه مدرك بالحس المشاهد، فلا يكون عندك ارتياب وتردد فيما سيقع من هذه الغيبيات كأنه مشاهد وقد وقع وانقضى وانتهى، هذا أخذناه من أين؟ من اللغة العربية.