قال وأشار في هذين البيتين إلى أنه إنما يثبت لهما هذا الحكم إذا كانا قبل الهمزة يتعديان إلى مفعولين، وأما إذا كانا قبل الهمزة يتعديان إلى واحد، كما إذا كانت رأى بمعنى أبصر، رأى زيدٌ عمراً، وعلم بمعنى عرف، علم زيدٌ الحقَّ، حينئذٍ يتعديان بعد الهمزة إلى مفعولين، فيصير الفاعل مفعولاً أول، أرَيْتُ زيداً عمرواً، وأعلمت زيداً الحق، لا يقال زيدٌ عمروٌ، ولا زيدٌ الحقُّ، لذلك ليس أصلهما المبتدأ والخبر، حينئذٍ لا يكونان من هذا الباب، والثاني من هذين المفعولين كالمفعول الثاني من مفعولي كسا وأعطى، كسوت زيداً جبة، الصحيح أن يقال: كسوت زيداً، وكسوت جبة، وأعطيت زيداً درهماً؛ لكونه لا يصح الإخبار به عن الأول؛ لأنه ليس بخبر في الأصل، فيمتنع حينئذٍ أن يخبر به عن الأول؛ لأن هذه لا تدخل على الجملة الاسمية التي أصلها مبتدأ وخبر، فلا تقل: زيدٌ الحقُّ، ولا زيدٌ درهمُ، وفي كونه يجوز حذفه مع الأول، وحذف الثاني وإبقاء الأول، وحذف الأول وإبقاء الثاني، وإن لم يدل على ذلك دليل، يعني: ولو كان اقتصاراً، فمثال حذفه: أعلمتُ وأعطيتُ، إذا أراد أن يخبر بأنه مجرد عِلْم معرفة، أعلمت وأعطيت، هذا يجوز لا بأس به، ((فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى)) [الليل:5]، (أَعْطَى)، حذف المفعولين، لماذا؟ لأن المراد هنا الإخبار بمجرد الإعطاء، بقطع النظر عن المعطى أو المعطي: ((فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى)) أعطى ماذا؟ حذف المفعولين؛ لأنه لا حاجة لذكر المفعولين، ولذلك إذا أريد العموم حينئذٍ يحذف المتعلِّق، وحذف المتعلِّق -ومنه هذا مفاعيل متعلقة-، حذف المتعلق يفيد العموم.
ومثال حذف الثاني وإبقاء الأول: أعلمتُ زيداً، وأعطيتُ زيداً: ((وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ)) [الضحى:5]، رَبُّكَ فاعل، ويُعْطِيكَ مثل أعطيت زيداً درهماً، المحذوف هنا المفعول الثاني وليس الأول، والكاف هذا في محل نصب مفعول أول؛ لأنه لم يتعلق به بفائدة.
ومثال حذف الأول وإبقاء الثاني: ((حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ)) [التوبة:29]، يعني: يعطوكم: ((حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ)) [التوبة:29]، حتى يعطوكم الجزية، حذف الكاف، وهذا كثير.
وَكَأَرَى السَّابِقِ نَبَّا أَخْبَرَا ... حَدَّثَ، أَنْبَأَ، كَذَاكَ، خَبَّرَا
هذا من باب القياس، وإلا الأصل بعضهم حصر أرى وأعلم فحسب، ولذلك سائر الأفعال السابقة وهي ثلاثة عشر فعلاً لم يأت فيها الكلام من أنها تتعدى إلى ثلاثة مفاعيل، مع أن بعضها يتعدى إلى مفعول، ويتعدى إلى مفعولين، ومع ذلك لا يقال فيها لإجراء الأحكام المتعلقة هنا في همزة النقل.
وَكَأَرَى السَّابِقِ نَبَّا: نَبَّا هذا مبتدأ، وَكَأَرَى خبر مقدم، السَّابِقِ، نعت له، السابق المراد به المتعدي إلى ثلاثة مفاعيل، فيما عرفت من الأحكام، لا كأرى المتأخرة، وهي المتعدية إلى اثنين، السَّابِقِ، عندنا رأى هنا ثنتان، رأى سابقة ورأى متأخرة، رأى السابقة هي التي أشار إليها بقوله:
وَلِرَأَى الرُّؤْيَا انْمِ مَا لِعَلِمَا ... طَالِبَ مَفْعُولَيْنِ ......
ورأى الثانية أشار إليها بقوله: