إذاً: خلاصة الإلغاء نقول: حقيقته ترك العمل لفظاً ومحلاً، وهذا إنما يكون جائزاً لا واجباً، يعني: إذا وجدت سببه حكمه الجواز لا الوجوب، خلافاً للأخفش، وما سببه؟ سببه نقول: إما أن يتوسط العامل وإما أن يتأخر، إذا توسط العامل بين معموليه المفعول الأول والثاني، حينئذٍ نقول: جاز الإلغاء، وإذا تأخر عن مفعوليه -معموليه- جاز الإلغاء وجاز الإعمال، وفي حالة التوسط الإعمال أرجح من الإهمال، وفي حالة التأخر الإهمال أرجح من الإعمال، فحينئذٍ نقول: بقي صورة واحدة: وهي فيما إذا تقدم: ظننتُ زيداً قائماً، عند البصريين يجب فيه الإعمال ولا يجوز الإلغاء، فإن جاء في لسان العرب ما ظاهره الإلغاء وجب التأويل بواحد من أمور ثلاثة، إما أن ندعي أن المفعول الأول هو ضمير الشأن، والجملة الظاهرة المرفوعة هذه في محل نصب مفعول ثاني، أو ندعي أنه من باب التعليق بتقدير لام الابتداء داخلة وهي محذوفة، أو إذا تقدمه شيء: أَنِّي وَجَدْتُ، متى ظننت، حينئذٍ نقول: هذا ليس من باب الابتداء، بل مما يجوز فيه الإلغاء، والعامل المُلغَى لا يعمل لا في اللفظ ولا في المحل فوجوده وعدمه سواء، ولذلك إذا ألغي حينئذٍ تعرب الجملة على أنها لا محل لها من الإعراب: زيدٌ ظننتُ قائمٌ، ظننتُ فعل وفاعل، والجملة لا محل لها من الإعراب معترضة، لا اعتبار لها.
ثم قال:
.............................. ... والْتَزِمِ التَّعلِيقَ قَبْلَ نَفْيِ مَا
كَذَا وَالاِسْتِفْهَامُ ذَا لَهُ انْحَتَمْ
وَإِنْ وَلاَ لاَمُ ابْتِداءٍ أَوْ قَسَمْ
التَّعلِيقَ قلنا: حقيقته ترك العمل في اللفظ لا في المحل، وحقيقته: أنه يحول بين العامل والمعمولين ما له صدر الكلام، -هذا هو ضابطه- أن يقع بين العامل والمعمولين ما له صدر الكلام، ومنه مثلاً لام الابتداء، تقول: ظننتُ لزيدٌ قائمٌ، نقول: أصل التركيب، ظننتُ زيداً قائماً –بالنصب-، دخلت لام الابتداء، فقيل: لزيدٌ قائمٌ، أبطلت العمل، أحالت بين العامل والمعمول، لماذا؟ لأن لها حق الصدارة في الكلام، يعني: لا يسبقها شيء، وما كان له حق الصدارة في الكلام لا يعمل ما قبله فيما بعده، حينئذٍ لا يتسلط ظننت على زيد، أي: هو عامل في الأصل، وهذه دخيلة، فحينئذٍ قالوا: يتوجه العمل إلى المحل لا إلى اللفظ، فإذا عطفت عليه حينئذٍ جاز لك الأمران: الرفع، باعتبار اللغو، والنصب باعتبار المحل، مثل ما ذكرناه في قول: لا رجل ظريفٌ ظريفاً، يجوز فيه الوجهان إما باعتبار اللفظ: ظريفا -وهذا التركيب-، أو ظريفٌ باعتبار لا ومدخولها، أو ظريفاً باعتبار المحل، والشاهد: ظريفاً، حينئذٍ إذا قلت: ظننتُ لزيدٌ قائمٌ وعمروٌ منطلقٌ وعمرواً منطلقاً، يجوز فيه الوجهان، وعمروٌ منطلقٌ باعتبار اللفظ، المعطوف على المرفوع مرفوع، وعمراً من أين جاء النصب؟ لابد من سؤال ولابد من جواب، وعمراً ما العامل فيه؟ وعمراً منطلقاً، نقول: هذا معطوف على المنصوب؟ أين المنصوب؟ في المحل، إذاً: دل هذا على أن (ظنَّ) لم تلغ كلياً، وإنما ألغي إعمالها في اللفظ فحسب، وأما المحل فهذا باقٍ على أصله أو على ظاهره.