فَأَنْتَ لَدَى بُحْبُوحَةِ الْهُون كَائِنُ، هذا شاذ يحفظ ولا يقاس عليه، ولا يكونان خبراً إلا إذا كان متعلقهما عاماً؛ لأنه واجب الحذف، حينئذٍ إذا أثبتنا وقررنا أن الظرف والجار والمجرور كل منهما متعلق بمحذوف، وهذا المحذوف واجب الحذف، وهو كون عام، بماذا نقدره؟ الناظم قال: نَاوِينَ، أي: قاصدين في قلوبهم؛ لأن النية محلها القلب، نَاوِينَ-وأظن التصريح بها ليس ببدعة عندهم-: نَاوِينَ مَعْنَى كَائِنٍ، أي: قاصدين بالإخبار بالظرف أو الجار والمجرور مَعْنَى كَائِنٍ أو معنى اسْتََقَرْ، والفرق بين اللفظين: كائن اسم فاعل، واستقر فعل، وكلا القولين قرر أنه لابد أن يكون متعلق الجار والمجرور ما فيه وصف؛ ليصح الإخبار بالظرف والجار والمجرور، وهل الناظم يريد التخيير أو حكاية خلاف بين النحاة؟ الظاهر الأول: أنه يريد في هذا المتن التخيير؛ لأنه قال: نَاوِينَ مَعْنَى كَائِنٍ أوِ اسْتََقَرْ، كائن هذا مشتق من الكون، واستقر هذا فعل صريح، مَعْنَى كَائِنٍ أوِ اسْتََقَرْ، الظاهر أنه جوز الأمرين.
وقد يترجح يجوز هذا ويجوز ذاك، ولكن أيهما أرجح؟ هذه مسألة أخرى، وقد يتعين عند بعضهم أن يكون كائناً، وقد يتعين عند بعضهم أن يكون استقر، حينئذٍ تكون من حيث الإجمال الأقوال ثلاثة:
منهم من جوز الوجهين: كَائِنٍ أوِ اسْتََقَرْ.
ومنهم من ألزم بتقدير اسم فاعل ومنع أن يقدر بالفعل.
ومنهم من عكس.
من رجح بأنه اسم فاعل استدلوا بأنه قد ورد في الشعر العربي ذكر الخبر ظرفاً، وذكر معه اسم الفاعل
لَكَ الْعِزُّ إِنْ مَوْلاَكَ عَزَّ وَإِنْ يُهَنْ ... فَأَنْتَ لَدَى بُحْبُوحَةِ الْهُون كَائِنُ
فَأَنْتَ: مبتدأ، كَائِنُ لدى: لَدَى هذا ظرف، كَائِنُ: هذا الخبر، صرح به، إذاً إذا صرح به شذوذاً حينئذٍ نقول: ما لم يصرح به فالأولى حمله على ما نطق به، فرجحوا أن يكون المتعلق اسم فاعل.
الثاني: أن هذا المتعلق خبر، والأصل في الخبر أن يكون مفرداً، وكائن هذا مفرد، واستقر هذا جملة، حينئذٍ إذا قدرنا استقر قدرناه على غير أصله، وإذا قدرنا كائن حينئذٍ قدرناه على أصله وهو المفرد.
ثالثاً: أن تقدير اسم الفاعل يغني عن تقدير شيء آخر معه، بخلاف ما إذا قدرناه فعلاً، إذا قيل: زيد كائن في الدار، زيد استقر في الدار، كائن ماذا قدرناه؟ قدرنا لفظاً واحداً، واستقر؟ قدرنا الفعل وفاعله؛ لأننا قلنا الفاعل هنا في استقر كالفاعل في قام معتبر، حينئذٍ صار جملة، ولذلك تقول: زيد قام، زيد: مبتدأ، قام: هنا من باب الإخبار بالمفرد أو بالجملة؟ بالجملة إذاً استقر جملة، حينئذٍ إذا قدرته كائن قدرت مفرداً واحداً لفظاً، وإذا قدرت استقر قدرت شيئين، إذاً هو مُحْوِجُكَ إلى تقدير شيء آخر.