هذا (من)، إذاً الأصل في (من) أنها تستعمل للعاقل، وقد تخرج عنه في ثلاث مسائل، وقد يزاد عليها عند البيانيين، فحينئذٍ إذا استعملت مراداً بها المفرد والمثنى والجمع الذي يميز هذا عن ذاك هو المرجع –العائد- إذا قلت: جاء من قام، يعني جاء الذي قام، جاء من قامت (هي)، جاء من قاما، هذا بالتثنية، يعني مذكر، جاء من قامتا (بالتأنيث)، جاء من قاموا، من قمن .. نقول: هذه كلها فسرت (من) بالضمير الذي يرجع إليه وعرفنا أن المراد بها إما مذكر وإما مؤنث، إما مفرد وإما مثنىً، وإما جمعاً.
وَ (مَا) أيضاً الأصل فيها أنها تستعمل لغير العاقل عكس (من)، وقد تستعمل في العاقل قليلاً، وذكر ابن هشام ثلاثة مواضع لها:
الأول: أن يختلط له مع العقل، أن يحصل اختلاط العاقل وغير العاقل، حينئذٍ له أن يعبر بـ (ما)، انظر في المواضع السابقة اختلط العاقل بغير عاقل وقد يعبر بـ (من).
إذاً المسألة ترجع إلى القرينة وإلى ما أراده المتكلم، قد يغلب هذا الشيء على شيء آخر، وهذه كلها قد لا يقال فيها بأن لها ضوابط معينة مطردة لا يخرج عنها، وإنما السياق، وهذا الذي يحكم هذه المسائل.
أن يختلط العاقل مع غير العاقل نحو قوله تعالى: ((يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ)) [الجمعة:1] فإن (ما) يتناول ما فيهما من إنس وملك وجن وحيوان وجماد، بدليل ((وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ)) [الإسراء:44].
والموضع الثاني: أن يكون أمره مبهماً على المتكلم، كقولك -وقد رأيت شبحاً من بعيد-: انظر (ما) ظهر لي، عبرت بـ (ما) عن شيء مبهم، إذا أبهم عليك الشيء ولا تدري هل هو عاقل أو غير عاقل تأتي بـ (ما)، هذا هو الأصل فيه، -الأصل في الأشياء غير عاقلة- ثم إذا تبين لك حينئذٍ تحكم عليها بالعاقل.
والموضع الثالث: أن يكون المراد صفات من يعقل، كقوله تعالى: ((فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ)) [النساء:3] (ما) هذا عاقل –مرأة- هنا عبر بـ (ما) والأصل فيها أنها لغير العاقل، هل معنى ذلك أن المرأة ليست عاقلة؟ لا، إنما المراد الصفات التي وقعت عليها (ما)، لأن الأمر هنا تعلق بالنكاح ((فَانكِحُوا)) والنكاح إنما ينظر فيه إلى الصفات، ولذلك جيء بـ (ما).
إذاً الأصل في (ما) أنها للعاقل، وقد تخرج عنه لقرينة ومعنىً يقتضيه السياق، فحينئذٍ لا بأس بذلك.