فالعلم المراد به: إدراك المعنى، والمراد بالإدراك: هو وصول النفس إلى المعنى بتمامه، فإن لم يكن كذلك فهو شعور لا إدراك، وهذا المعنى قد يكون معنىً مفرداً، وقد يكون معنىً مركباً، المعنى المفرد: هو مدلول اللفظ المفرد: زيد هذا لفظ مفرد، مدلوله شيء مفرد وهو: الذات المشخصة: زيد قائم هذا مركب مدلوله ثبوت قيام زيد، إدراك الأول يسمى: تصوراً وإدراك الثاني يسمى: تصديقاً، ففرق بين العلمين علم التصور وعلم التصديق:
إدراكٌ مفردٌ تصوراً عُلِم
العلم إدراك المعاني مطلقا
سموهما: التصديق والتصورا
ودَرْكُ نسبةٍ بتصديقٍ وُسِم
وحصره في طرفين حققا
.............................
إذاً: هذان علمان، قوله: علم، أي: إدراك بأصول، الأصول المراد بها هنا: القواعد العامة التي يستنبطها النحاة من كلام العرب بواسطة التتبع فحينئذٍ إذا قعدوا قاعدة كالفاعل مرفوع نقول: علمك بهذه القاعدة: الفاعل مرفوع، تستطيع بواسطتها أن تعرف جزئيات تلك القاعدة؛ لأن القاعدة ما هي: قضية كلية يتعرف بها أحكام الجزئيات موضوعها والكلام في هذا يطول وقد سبق معنا مفصلاً في شرح الملحق ولا بد من الإحالة.
حينئذٍ نقول قضية التي هي: الفاعل مرفوع هذه قضية كلية، بأن الفاعل: هذا مبتدأ محكوم عليه، مرفوع: هذا محمول وهو خبر، الفاعل يشمل ماذا؟ يشمل زيد وعمرو وخالد من قولك: جاء زيدٌ ومات عمرٌ وسافر خالد هذه كلها آحاد هل هي داخلة تحت قولنا: الفاعل؟ نقول: نعم، داخلة تحت قولنا: الفاعل.
ما الذي يدلنا على أن هذا اللفظ: زيد من قولك: جاء زيد فاعل؟ بتطبيق الحدود: الاسم المرفوع المذكور قبله فعل أو الاسم المؤول بالصريح المذكور قبله فعل إلى آخره، أو أسند إليه فعل صريح أو مؤول بالصريح مقدم عليه بالأصالة قائماً منه أو واقع عليه، حينئذٍ نقول: هذا الحد بالنظر فيه والتفكر وتنزيله على زيد تحكم بأنه فاعل.
هنا فائدة الحدود حدود يذكرها النحاة ويفصلون فيها من أجل أن تحكم على اللفظ؛ لأنه يأتيك: جاء زيد، ضربت عمرواً وخالداً إلى آخره تقول: خالد من هذا اللفظ أو هذا التركيب هل هو فاعل أو تمييز أو حال؟ يلتبس، حينئذٍ الذي يضبط لك هذا عن ذاك هو الحد، فمعرفة الحد بتفاصيله وجزئياته وإدخاله وإخراجه يعينك على الحكم على الشيء بكونه فاعلاً، ثم إذا حكمت عليه بكونه فاعلاً يستلزم ماذا؟ يستلزم الحكم الإعرابي وهو: أنه مرفوع.
ولذلك يركب قياس من الشكل الأول فيقال: زيد، من: جاء زيد فاعل، هذه مقدمة صغرى، وكل فاعل مرفوع فالنتيجة: زيد مرفوع؛ لأنه فاعل مع التعليل، هذه قد يقول قائل: كلفة فيها هذه أنت مبرمج عليها، أليس كذلك؟ فتحكم على الشيء بكونه فاعلاً أولاً تتصور أنه فاعل، وهذا التصور لو لم تستحضر فيه الحد إلا أن مدلول الحد هو الذي وقع في نفسك صار أمراً جبلياً لا يحتاج إلى تكلف وطلب للمعلومات.