فالقصد الآن بهذا البيت والشطر بيان استحقاق الحرف بنائه الحاصل له، ولإفادته أن البناء أصل فيه بخلاف مبني، لو قال: مبني، لم نستفد أنه أصل فيه، إذاً: وَكُلُّ حَْرفٍ مُسْتَحِقُّ، أي: مستوجب للبناء، نأخذ من هذا: أن الحرف مبني .. كل الحروف مبنية، ثم البناء أصلي، وليس بطارئ كما هو الشأن في بعض الأسماء.

قوله: (للبناء)، لماذا؟ لو أردنا أن نعلل نقول: للبناء هنا، وأقول: إذا أردنا أن نعلل لأن الأصل عدم التعليل، إذ ليس فيه مقتضى الإعراب الذي ذكرناه قبل قليل، ليس في الحرف مقتضى الإعراب، الذي هو ماذا؟ توارد المعاني التركيبية المختلفة على الصيغة الواحدة أو اللفظ الواحد الذي لا يميز هذا المعنى عن ذاك إلا الإعراب، هذا غير موجود في الحرف.

حينئذٍ يرد الإشكال: أن الحرف فيه معاني، من للابتداء، وترد للتبعيض، وتأتي لبيان الجنس، هذه معاني أو لا؟ معاني مختلفة، هل تتوارد على اللفظ الواحد وهو من، حينئذٍ نحتاج إلى ما يميزها، هل تتوارد؟ يعني: يحتمل أن هذا اللفظ من يحتمل التبعيض، أو لبيان الجنس .. ؟ نقول: العلة التي هي علة إعراب الاسم، أن المعاني حاصلة بماذا؟ بالتركيب نفس التركيب، وأما الحرف هنا فالمعنى الذي يتوارد عليه معنىً إفرادي، ولذلك لا تأكل السمك وتشربِ اللبنَ، لمن ننظر إليه لوحده تشرب فقط، وإنما نظرنا إليه بعامله، هل هو معطوف على ما قبله أو لا، وهذا نتيجة للتركيب.

وأما المعاني الإفرادية كالابتداء والتبعيض بمن فتعتور الحرف، لكن لا يميز بينها بالإعراب، وإنما تعرف بالسياق، يعني: لا يدل الضم أو الفتح أو الكسر أو السكون على المعنى، إذا أردت أن تعرف أن من هذه للتبعيض أو لبيان الجنس لا تنظر إلى حركتها، هذا قطعاً، وإنما تنظر إلى المعنى السابق واللاحق، ولذلك الحرف من حيث دلالته على المعنى، نقول: يدل على المعنى في غيره، ما المراد؟ يدل على معنىً في غيره، هل معناه: أنه لا يفهم منه المعنى البتة؟ نقول: لا، ليس هذا المراد، ولذلك نقول: الاسم والفعل والحرف، كل منها كلمة، والكلمة قول مفرد.

إذاً: الاسم قول مفرد، والفعل قول مفرد، والحرف قول مفرد، هل الواضع وضع اللفظ وجرده عن المعنى؟ نقول: لا لم يجرده عن المعنى، بل دل على معنىً، لكن هذا المعنى لا يفهم بذاته لو أطلق اللفظ هكذا (من)، لا يفهم منه الابتداء أو التبعيض إلا بعد تركيبه، إذاً: كونه دل على معنىً في غيره مرادهم به أنه لا يدل على معنىً بذاته بنفسه بحيث يفهم منه المعنى بخلاف الاسم والفعل، إذا قلت: زيد، فهمت منه المعنى مباشرة، إذا قلت: قلم .. سماء .. أرض، اللفظ بنفسه إذا أطلق فهمت منه المعنى مباشرة.

إذاً: دل على معنى دون افتقاره إلى ضميمة كلمة سابقة ولا لاحقة، إذا قلت: قام، فهمت منه معنىً وهو إخبار بوقوع حدث وهو القيام في زمن مضى وانقطع، إذا قلت: يقوم كذلك، قم تفهم من الكلمة لوحدها، هذا المعنى لا يفتقر إلى كلمة أخرى من أجل أن تفهم، بخلاف (من)، هذا لا يفهم منه التبعيض أو الابتداء أو لبيان الجنس، (من): هذه محتملة لهذه المعاني كلها، لكن متى يفهم منها الابتداء؟ لا بد أنك تركبها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015