إذاً: يشترط في نون التوكيد أن تكون مباشرة، فإن لم تكن مباشرة حينئذٍ رجعنا إلى الأصل في الفعل المضارع، فهو معرب، وهذا على الصحيح وهو قول الجمهور، أما من قال بالبناء مطلقاً، أو قال بالإعراب مطلقاً، فقوله ضعيف.
وَمِنْ نُونِ إنَاثٍ: لم يقيدها بالمباشرة، لماذا؟ لأنها لا تكون إلا مباشرة، نون الإناث لا تكون إلا مباشرة.
إذاً: إذا عري الفعل المضارع عن هاتين النونين، قلنا: هو معرب، وسيعقد الناظم رحمه الله تعالى للنواصب والجوازم.
ثم قال رحمه الله:
وَكُلُّ حَْرفٍ مُسْتَحِقُّ لِلْبِنَا
وَمِنْهُ ذُو فَتْحٍ وذُو كَسْرٍ وَضَمّ ... وَالأَصْلُ فِي الْمَبْنِيِّ أَنْ يُسَكَّنَا
كَأَيْنَ أَمْسِ حَيْثُ وَالسَّاكِنُ كَمْ
هذا هو النوع الثالث من أنواع الكلمة على الترتيب، قدمها بالأشرف الاسم، ذكر المعرب منه والمبني ووجَّه علة المبني، وذكر أوجه الشبه، ثم انتقل إلى النوع الثاني وهو الفعل، ثم لم يبق إلا الحرف.
والحروف كلها مبنية، ولذلك قال: وَكُلُّ حَْرفٍ .. جاء بقاعدة كلية، وكل هذه من ألفاظ العموم، ولذلك هناك في قطر الندى قال: والحروف كلها مبنية، لم يستثن منها حرف البتة، لماذا؟ لأن الحروف لا يوجد فيها علة إعراب الاسم، ولا الفعل المضارع، وهو اعتوار المعاني المختلفة التركيبية عليها، إذاً: لا تفتقر إلى الإعراب.
وإذا كان كذلك حينئذٍ نقول: الحرف مبني لما علل، ولذلك نقول: الأصل في الاسم الإعراب ولا يعلل هذا الأصل، ولكن لما نظر غيره في غيره الفعل والحرف احتجنا إلى التماس علة في الاسم المعرب من أجل أن نفهم لماذا كان الأصل في الفعل البناء، ولماذا كان الأصل في الحرف البناء، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فإذا علل الأصل الاسم بالإعراب ووجدت علته حينئذٍ متى ما وجدت هذه العلة في الفعل فثم الحكم، ومتى ما وجدت في الحرف فثم الحكم.
لما وجدت في بعض أنواع الفعل وهو الفعل المضارع حينئذٍ وجد الحكم وهو الإعراب، نظرنا في الحرف فإذا به لا يمكن أن تتوارد عليه المعاني؛ لأن الفعل يوجد مسنداً بل يكون مسنداً، حينئذٍ يمكن أن تتوارد عليه المعاني التركيبية، وهو أحد ركني الإسناد، وأما الحرف فلا يسند ولا يسند إليه، لا يخبر به ولا يخبر عنه.
إذاً: لا يمكن أن تتوارد عليه فلا يمكن أن توجد فيه علة الإعراب في الاسم، فلا يمكن أن يكون معرباً، ولذلك قال:
وَكُلُّ حَْرفٍ مُسْتَحِقُّ .. أي: مستوجب للبناء، اعترض على الناظم في قوله: مستحق، قالوا: هذا فيه نوع إشكال؛ لأن الحرف أو الشيء قد يكون مستحقاً للشيء ولا يعطاه، حينئذٍ قوله وَكُلُّ حَْرفٍ مُسْتَحِقُّ لِلْبِنَا، لا يلزم منه أن يكون مبنياً، فالأسماء كلها مستحقة للإعراب ومع ذلك لم تعط كلها الإعراب، والأصل في الفعل أنه مستحق للبناء، ولم يعط كل أنواع الفعل البناء.