بَعِّضْ وَبَيِّن وابْتَدِئْ فِي الأَمْكِنَةْ ... بِمَنْ وَقَدْ تَأْتِي لِبَدْءِ الأَزْمِنَةْ
وَزِيدَ فِي نَفيٍ وَشِبْهِهِ فَجَرْ ... نَكِرَةً كَمَا لِبَاغٍ مِنْ مَفَرْ
هذا شروعٌ منه في ذكر المعاني، وهذا المبحث الثاني الذي يذكره النحاة، وهذا كما ذكرناه لا بد من استيعابه، ويُؤخَذ من مظانه؛ يعني لا يؤخذ من كتب النحاة, بعضهم يذكر بعض التحقيقات التي قد لا تُوجَد في غيرها، لكن الأصل فيها ما أُلف في الكتب المستقلة.
المعاني التي يتكلّم عنها النحاة، -وهنا مبحث مهم- وهو أن الحرف معلوم أنه ما دلَّ على معنى في غيره؛ فلذلك نُعرّف الاسم بأنه كلمة دلَّت على معنى في نفسها يعني بذاتها, ونعرّف الفعل كذلك كلمة دلَّت على معنى في نفسها, والحرف كلمة دلَّت على معنى في غيرها, حينئذٍ المعنى الذي دلَّ عليه الحرفُ في غيره, هل يُنافي بأن نقول (مِن) تفيد الابتداء، و (من) تفيد التبعيض، والكاف للتشبيه، واللام للانتهاء ونحو ذلك .. أم هو هو؟
نقول: لا شكّ أنه الثاني؛ لأننا لو أثبتنا للحرف معنًى من المعاني المستقلة بنفسهِ، حينئذٍ نقول: جعلنا الحروف أسماء، لأن المعنى أو الفارق بين الحرف والاسم هو المعنى, فإذا قلنا مِن مُتضمّنة معنى .. معناها الابتداء نفسها؛ كما أن معنى زيد دلالتها على الذات مشاهدة في الخارج لجعلنا الحروف أسماء, ولكن المراد هنا أن هذه المعاني التي تدلّ عليه هذه الحروف مُلاحظة في الغير؛ يعني ليسَ المعنى دالاً عليه الحرف بذاته فحسب, وإنما هو بملاحظة الذي يليه، ولذلك سبقَ معنا أن حرف الجرَّ لا بد من كلمة سابقة وكلمة لاحقة, لا يمكن أن يكون حرف الجر عامِلاً ومؤدياً وظيفته في لسان العرب إلا إذا سبقته كلمة ولحقته كلمة أخرى, السابقة يسمّونها المتعلَّق، لا بد منه إما أن يكون مذكوراً وإما أن يكون محذوفاً؛ كما سيأتي في آخر الباب, وما بعدَه مدخوله لأن الحرف يجر الاسم. حينئذٍ إيصال المعاني التي قلنا حروف الجر تجرّ معاني الأفعال إلى الأسماء، ولذلك صارت هي بمنزلة الآلة، كما يقول الشيخ الهرري بمنزلة التوصيلة الكهربائية فتوصل الكهرباء من الفيش مثلًا إلى الجهاز, وظيفة الحرف هي وظيفة هذه التوصيلة الكهربائية. حينئذٍ نقول الفعل تضمَّنَ المعنى, والاسم الذي هو مجرور الحرف أرادَ أن يصلَ ذلك المعنى إليه, الفعل لا يتعدّى إليه بنفسه حينئذٍ جئنا بهذه الحروف.
إذن: معاني الحروف نقول الحرف معناه في غيره؛ فإذا قيل (من) للتبعيض المراد به التبعيض الملحوظ لغيره, يعني باعتبار ما بعدَه, ليست من لوحدها هكذا تقول هي للتبعيض، لا؛ ليس هذا مرادهم, وإنما المراد التبعيض الملحوظ لغيره يعني ما بعده, فليسَ المعنى مستقلاً لمن، بل باعتبار ما قبلها وما بعدها.
(من) للتبعيض المراد به التبعيض الملحوظ لغيره أي لكونه حالة بين المتعلق والمجرور, أول شيء تقول حالّة بين المتعلق والمجرور, وآلةً لربط أحدهما بالآخر, فليسَ المراد مطلق التبعيض بل التبعيض الملحوظ لغيره, فإذا قيل بعِّض, إذن: نقول (مِن) تجيء للتبعيض؛ هل هو التبعيض المطلق يعني لا باعتبار كلمة سابقة ولاحقة, أم هو تبعيض مَلحوظٌ لغيره؟