قال المكّودي: وما ذكره المرادي أصوب؛ لأن فيه التنبيه على أن (إلا) هي العامل في المستثنى، وهذا قد صرّحَ به الناظم كما سبق معنا، وأيضاً أن ما قبل (إلا) قد لا يكون عاملاً في نحو "ما في الدار إلا زيدٌ إلا بكرٌ إلا عمروٌ"، حينئذٍ نقول أين العامل الذي قبل (إلا)؟
وجعلُ "دع" بمعنى "اجعل" غير معهود في اللغة، وإنما "دَع" بمعنى "اترك"، قال ابن عقيل: وإذا كُرّرت (إلا) لغير توكيد وهي التي يُقصد بها ما يُقصد بما قبلها من الاستثناء، يعني استثناء بعد استثناء، إذا كُرِّرت (إلا) فالمراد حينئذٍ بها استثناء بعد استثناء، وذلك في غير بابي العطف والبدل، ولو أُسقِطت لما فُهم ذلك، فلا يخلو إما أن يكون الاستثناء مُفرغاً أو غير مفرَّغ، فإن كان مفرَّغاً شغلتَ العامل بواحدٍ ونصبتَ الباقي، إذا كان العامل الذي قبل (إلا) مفرَّغاً تركتَه يؤثَّرُ في واحد من المستثنيات، ونصبتَ ما عدا ذلك الواحد ولا يتعيَّنُ الأول بل يترجَّح، ما قام إلا زيدٌ إلا عمراً إلا بكراً، ما قام (إلا) زيدٌ، ما قبل (إلا) وهو قامَ هذا يحتاج إلى فاعل، حينئذٍ تعطيه واحداً من هذه الثلاثة؛ إما الأول وإما الثاني وإما الثالث، أنت بالخيار، والأول أولى؛ لأنه قريب من العامل، ما قام إلا زيدٌ، ثم الباقي ماذا تصنع فيه؟
تنصبُهُ على الاستثناء، وحكمُ النصب واجب، فتقول: ما قام إلا زيدٌ بالرفع على أنه فاعل، إلا بكراً إلا عمراً، فهو واجب، ويصحُّ أن تنصب الأول وترفع الثاني تقول: ما قام إلا زيداً إلا عمروٌ إلا بكراً، ويصحَّ أن تنصب الأول والثاني وترفع الثالث، فتقول: ما قامَ إلا زيداً إلا عمراً إلا بكرٌ.
ولا يتعيّنُ واحد منها بشغل العامل، بل أيَّها شئتَ شغلتَ العامل به ونصبت الباقي، وإن كان غير مُفرَّغ، استثناء غير مفرغ، فالذي أشار إليه في الأبيات الآتية:
وَدُونَ تَفْرِيغٍ مَعَ التَّقَدُّمِ ... نَصْبَ الْجَمِيعِ احْكُمْ بِهِ والْتَزِمِ
وَانْصِبْ لِتَأْخِيرٍ وَجِيءْ بِوَاحِدِ ... مِنْهَا كَمَا لَوْ كَانَ دُونَ زَائِدِ
كَلَمْ يَفُوا إِلاَّ امْرُؤٌ إِلاَّ عَلِي ... وَحُكْمُهَا فِي الْقَصْدِ حُكْمُ الأَوَّلِ
وَدُونَ تَفْرِيغٍ، يعني إذا لم يكن الاستثناءُ مفرَّغاً، دُونَ تَفْرِيغٍ هذا ظرف متعلّق بقوله احْكُمْ بِهِ دون تفريغ، إذا كان الاشتغالُ يجري في الظرف حينئذٍ يكون هذا منصوباً على الاشتغال.
وَدُونَ تَفْرِيغٍ، (وَدُونَ) مضاف وتَفْرِيغٍ مضاف إليه، وَدُونَ تَفْرِيغٍ إذا كان غير مفرّغ، حينئذٍ إما أن يكون الاستثناء مُقدّماً أو مُؤخّراً لا يخلو من أحد حالين؛ إما أن يكون مقدَّما وإما أن يكون مؤخَّرا.
قال: مَعَ التَّقَدُّمِ نَصْبَ الْجَمِيعِ احْكُمْ بِهِ، "قام إلا زيداً إلا عمراً إلا بكراً القومُ"، سبقَ معنا "قام إلا زيداً القومُ" واجبُ النصب، لعموم قوله: مَا اسْتَثْنَتِ (الاَّ) مَعْ تَمَامٍ يَنْتَصِبْ، إذن "قامَ إلا زيداً القومُ" واجبُ النصب، لو كُررت (إلا) في مثل هذا المقام؟