قوله: [ثم أصل هذه المقالة -مقالة التعطيل للصفات- إنما هو مأخوذ عن تلامذة اليهود والمشركين وضلال الصابئين] .
هذا المقطع يبين فيه الشيخ رحمه الله منشأ هذه البدعة، وذكر المنشأ يبين لك فساد الطريقة؛ لأنه إذا كانت هذه المقالة إنما نشأت عن أهل الضلال؛ فذلك يدل على أنها ليست بصحيحة، ففائدة بيان المنشأ: أولاً: التعرف على منشأ هذه البدعة.
وثانياً: الاستدلال بمنشئها على فسادها.
ثم قال رحمه الله: [فإن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام -أعني: أن الله سبحانه وتعالى ليس على العرش حقيقة، وأن معنى استوى بمعنى: استولى ونحو ذلك- هو الجعد بن درهم , وأخذها عنه الجهم بن صفوان وأظهرها؛ فنسبت مقالة الجهمية إليه.
وقد قيل: إن الجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان وأخذها أبان عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم وأخذها طالوت من لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الجعد بن درهم هذا -فيما قيل- من أهل حران، وكان فيهم خلق كثير من الصابئة والفلاسفة بقايا أهل دين نمرود والكنعانيين، الذين صنف بعض المتأخرين في سحرهم، والنمرود هو ملك الصابئة الكنعانيين المشركين، كما أن كسرى ملك الفرس والمجوس، وفرعون ملك مصر، والنجاشي ملك الحبشة، وبطليموس ملك اليونان، وقيصر ملك الروم، فهو اسم جنس لا اسم علم] .
بين الشيخ رحمه الله منشأ هذه المقالة وأنها مأخوذة من تلاميذ اليهود والمشركين وضلال الصابئين، وسيبين من هم الصابئون بعد قليل، فإن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة -وهي نفي الصفات- الجعد بن درهم، والجعد بن درهم ظهر في القرن الثاني وقتله خالد القسري رحمه الله لما أظهر بدعته وقال: إن الله سبحانه وتعالى ليس مستوياً على عرشه، ولم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، فقتله لما أظهر هذه البدعة الشنيعة التي مقتضاها تكذيب كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
فتلقاها عن الجعد بن درهم الجهم بن صفوان وأظهرها، فله شر إظهار هذه البدعة التي جرت على أهل الإسلام وسببت فُرقة عظيمة، ولما أخذها الجهم بن صفوان وأظهرها نسبت مقالة الجهمية إليه.
(وقد قيل إن الجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان وأخذها أبان عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم وأخذها طالوت عن لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم) .
لبيد بن الأعصم اختلف فيه: فقيل إنه يهودي، وقيل إنه منافق، وقد سحر النبي صلى الله عليه وسلم، وعلم النبي صلى الله عليه وسلم بسحره وأنه هو الذي سحره ولم يقتله.
قوله: (وكان الجعد بن درهم هذا من أرض حران) ؛ هذا فيه بيان لصلة هذه البدعة بالمشركين والصابئة، فبعد أن بين التسلسل لهذه البدعة وذكر أن الجعد أخذها من أبان , ثم ذكر منتهى البدعة إلى لبيد بن الأعصم , قال: (وفوق هذا) وكأنه يشير إلى سبب آخر في ابتداع الجعد وهو أنه من أرض حران (وكان فيهم خلق كثير من الصابئة والفلاسفة) .
والصابئة: هم الذين بعث فيهم إبراهيم عليه السلام، وهم قوم من المشركين الذين كانوا يعتقدون في الكواكب والنجوم، ويقولون: إن الكواكب السبعة هي التي تصرف الكون وإليها مرجع تدبير الخلق، فهؤلاء عندهم بدع مغلظة وكفرية فيما يتعلق بالله سبحانه وتعالى.
والفلاسفة: جمع فيلسوف وهي كلمة يونانية تتكون من فيلسوفيا ومعناها: محبة الحكمة.
فهؤلاء الذين نشأ فيهم الجعد بن درهم فيهم صابئة وفلاسفة، قال: (بقايا دين أهل نمرود والكنعانيين) وهم الذين بعث فيهم إبراهيم عليه السلام وحاجهم، فالنمرود هو الملك الذي جرت بينه وبين إبراهيم المحاجة المذكورة في سورة البقرة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258] .
قوله: (والنمرود هو ملك الصابئة الكلدانية) ، هذا استطراد في بيان أن النمرود ليس علماً لشخص، بل هو اسم جنس لمن ملك الكلدانيين، كما أن كسرى اسم جنس لكل من ملك فارس، وقيصر لمن ملك الروم، وفرعون لمن ملك الأقباط في مصر، والنجاشي لمن ملك الحبشة من النصارى.