ثم قال: (وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقيقتها بأنواع المجازات وغرائب اللغات) : أي: فلما فضلوا طريقة الخلف على طريقة السلف ظنوا أن طريقة الخلف هي الوقوف على المعاني، ولكن الحقيقة أن وقوفهم على المعاني ليس على ما تقتضيه الألفاظ من المعاني الظاهرة المتبادرة إلى الأذهان، وإنما هو صرف لهذه المعاني عن حقائقها والمتبادر منها، وسلكوا في هذا الصرف طريقين: الأول: أن يحملوا الآيات على المجاز، وعلى غرائب اللغة.
وستمر معنا نماذج لتأويلاتهم الباطلة وشبههم المنحرفة التي حرفوا فيها الكلم عن مواضعه، وحملوا ظواهر النصوص على معان غريبة ومجازات بعيدة.
قال: (فهذا الظن الفاسد) أي: ظنهم أن السلف لم يقفوا على المعاني إنما وقفوا وأجروا الألفاظ دون النظر إلى معانيها، (أوجب تلك المقالة التي مضمونها نبذ الإسلام وراء والظهر) ، لأن حقيقة الأمر أن يكون الإسلام له ظاهر وباطن، فعلى هذا يكون له ظاهر يلغى، وباطن يختلف الناس في الوقوف عليه وفي بيان حقيقته، ومقتضاه أيضاً أن الله سبحانه وتعالى خاطب الخلق وخاطب الناس بما لا يعقلون، أو خاطبهم بألفاظ مجردة عن معانيها، وقد تكلم شيخ الإسلام رحمه الله في مواطن كثيرة عن سوء بدعة التفويض وأنها من شر البدع؛ لأن فيها التهمة لله جل وعلا التهمة للنبي صلى الله عليه وسلم بعدم البيان (وقد كذبوا على طريقة السلف وضلوا في تصويبهم طريقة الخلف) فجمعوا بين سوءتين: الكذب والضلال؛ الكذب على السلف بأن طريقهم لم يكن فيه الوقوف على المعاني، والضلال في تصويب طريقة الخلف على طريقة السلف (فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف بالكذب عليهم، وبين الجهل والضلال في تصويب طريقة الخلف) .