أما كلام الشيخ رحمه الله -المتقدم- فهو في تفنيد العبارة التي يذكرها المتكلمون في بيان اعتذارهم عن مخالفة طريق السلف الصالحين، وسلوكهم طريق المتكلمين من المتفلسفة وغيرهم في باب أسماء الله وصفاته، فبدأ في الرد عليهم ببيان سبب هذا الضلال الذي وقعوا فيه فقال: (فإن هؤلاء المبتدعة الذين يفضلون طريقة الخلف من المتفلسفة ومن حذا حذوهم، على طريق السلف إنما أتوا) يعني: إنما وقعوا فيما وقعوا فيه؛ (لأنهم ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه لذلك) ، فهذا هو السبب الأول الذي أوقع المتكلمين في الضلال في باب الأسماء والصفات: حيث ظنوا أن السلف رحمهم الله لم يفقهوا آيات الصفات ولم يعلموا ما فيها، وأن غاية ما عندهم هو المعرفة لألفاظها دون الوقوف على حقائقها ومعانيها، ولا شك أن ما ظنوه من طريقة السلف خطأ وضلال وجهل، فإن السلف هم أعلم الناس بالله عز وجل؛ لأنهم تلقوا ذلك عمن لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم، ولكن السلف لم يدخلوا في باب الأسماء والصفات، وفي باب ما يتعلق بالله عز وجل بآرائهم وخيالاتهم وعقولهم، بل قبلوا ما جاء عن الله وعن رسوله على ما تقتضيه اللغة، دون الدخول في تكييف ذلك والبحث عن كنهه وحقيقته؛ لأن الباب قد أغلق بقوله جل وعلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] .
فالسبب الأول والركيزة الأولى التي بنى عليها المتكلمون مخالفتهم لطريق أهل السنة والجماعة: أنهم ظنوا أن عقيدة السلف التفويض، ولذلك فهم يرون أن التفويض هي عقيدة القرون المفضلة، وأنهم يؤمنون بالألفاظ ويقفون عن المعاني فلا يقولون فيها شيئاً، بل يقولون: أمروها كما جاءت! والسلف لاشك أنهم يقولون: أمروها كما جاءت، ولكن هذا اللفظ المنقول عنهم لا يدل على أنهم لم يقفوا على معاني هذه الأسماء والصفات، فإنهم وقفوا على معانيها وأجروها على ظاهرها، ولم يدخلوا فيها بالرأي والخيال والقول على الله بغير علم، ولا شك أن القول بنسبة السلف رحمهم الله إلى التفويض من أسوأ النِسب ومن أردئها ومن سوء الظن بهم رضي الله عنهم؛ لأن مقتضى التفويض التجهيل، ولذلك سيشير الشيخ رحمه الله إلى رداءة هذا القول وإلى بيان ضلاله وأن السلف لم يكونوا على هذه الطريقة.
ثم قال: (بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم) أي: فهؤلاء قد جعلوا السلف بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة:78] ، والأميون: جمع أمي، وهو من انتسب إلى أمه لعدم قراءته وكتابته.
وقد اختلف المفسرون في معنى الأميين في هذه الآية على قولين: القول الأول: أن الأميين في هذه الآية هم من لا يقرأ ولا يكتب.
فيكون معنى الآية {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} [البقرة:78] أي: لا يقرءون ولا يكتبون {لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة:78] يعني: إلا بالخرص والكذب واختلاق القول على الله عز وجل.
والقول الثاني: أن معنى الأميين: من يقرءون الكتاب لفظاً دون فهم معناه، وهذا القول أشار إليه ابن القيم رحمه الله في الصواعق المرسلة، وهو ظاهر مراد الشيخ رحمه الله؛ لأن المتكلمين يقرون أن السلف كانوا يقرءون الكتاب، لكنهم يقولون: إنهم يقرءونه دون فهم لمعانيه.