قال المؤلف رحمه الله: [وقال فرعون: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} [غافر:36-37] ثم استأنف الكلام فقال: (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً) فيما قال لي: إن إلهه فوق السماوات، فبين الله سبحانه وتعالى أن فرعون ظن بموسى أنه كاذب فيما قال، وعمد لطلبه حيث قاله مع الظن بموسى أنه كاذب، ولو أن موسى قال: إنه في كل مكان بذاته لطلبه في بيته أو في بدنه أو حشه -فتعالى الله عن ذلك- ولم يجهد نفسه ببنيان الصرح.
قال أبو عبد الله: وأما الآي التي يزعمون أنها قد وصلها، ولم يقطعها كما قطع الكلام الذي أراد به أنه على عرشه فقال: ((أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ)) [المجادلة:7] فأخبر بالعلم، ثم أخبر أنه مع كل مناجٍ، ثم ختم الآية بالعلم بقوله: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7]] .
هذه الآية فيها أنه سبحانه وتعالى أخبر عن نفسه بأنه مع كل مناج فقال: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7] فبدأ هذه الآية التي فيها الإخبار بمعيته سبحانه وتعالى لكل مناجٍ بالعلم فقال: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) وختمها بقوله: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فدل ذلك على أن المعية المذكورة في هذه الآية هي معية العلم.
قال المؤلف رحمه الله: [فبدأ بالعلم وختم بالعلم، فبين أنه أراد أنه يعلمهم حيث كانوا لا يخفون عليه، ولا يخفى عليه مناجاتهم، ولو اجتمع القوم في أسفل وناظرٌ إليهم في العلو فقال: إني لم أزل أراكم وأعلم مناجاتكم لكان صادقاً، ولله المثل الأعلى أن يشبه الخلق] .
أي: إذا كان هذا ليس ممتنعاً في حق الخلق فكيف نقول: إنه يمتنع في حق الخالق؟ قال رحمه الله: [فإن أبوا إلا ظاهر التلاوة وقالوا: هذا منكم دعوى، خرجوا عن قولهم في ظاهر التلاوة] .
الآن يلزمهم على قولهم بأن الآية تدل على أنه في كل مكان، فبعد أن أجاب بالمنع الآن يجيب بالتسليم، فيقول:نسلم أن الآية تدل على ما تقولون، ثم يناقشهم فيقول: [خرجوا عن قولهم في ظاهر التلاوة؛ لأن من هو مع الاثنين فأكثر هو معهم لا فيهم، ومن كان مع شيء خلا جسمه، وهذا خروج من قولهم] .
أي: أن كونه مع الشيء لا يستلزم أن يخالطه وأن يكون ممازجاً له، فقد يكون مع الشيء وهو بعيد عنه، فعلى قولكم بأن الآية تدل على هذا نقول: إن ظاهر التلاوة يدل على أنه سبحانه وتعالى في كل مكان، بل هو سبحانه وتعالى مع كل أحد إلا أنه بعيد عنه سبحانه وتعالى.
وكذلك قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] ؛ لأن ما قرب من الشيء ليس هو في الشيء، ففي ظاهر التلاوة على دعواهم أنه ليس في حبل الوريد، وكذلك قوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ} لم يقل: (فِي السَّمَاءِ) ثم قطع كما قال: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) ثم قطع فقال: (أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ) فقال: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ} ] .
وقوله: (ومن كان مع شيء خلا جسمه) هناك كلام بعد هذا، وهذه النقول موجودة في (درء تعارض العقل والنقل) المجلد الثاني والثالث، فلو يؤتى بها أو أحد يتكفل بمراجعة بعضها، فما زال الكلام للحارث المحاسبي أبي عبد الله فيراجع المقطع هذا لعله يتبين لنا ما سقط.
ظاهر التلاوة: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) وما قرب من الشيء ليس هو في الشيء.
فقرب الشيء من الشيء لا يلزم حلوله فيه، وهم قد ادعوا أن ظاهر التلاوة يدل على أنه في كل شيء، لكنه ما قال: إنه في حبل الوريد، بل هو قد أخبر سبحانه وتعالى على القول بأن المقصود بالضمير هو الله جل وعلا أنه أقرب إليه من حبل الوريد، ولم يقل إنه سبحانه وتعالى في حبل الوريد كما يزعمون؛ لأن من لازم قولهم: إنه في كل شيء، أن يكون في حبل الوريد أيضاً.
ثم فسر الآية فقال: [يعني: إله أهل السماء وإله أهل الأرض، وذلك موجود في اللغة، تقول: فلان أمير في خراسان وأمير في بلخ وأمير في سمرقند، وإنما هو في موضع واحد، ويخفى عليه ما وراءه، فكيف العالي فوق الأشياء؟! لا يخفى عليه شيء من الأشياء يدبره، فهو إله فيهما إذ كان مدبراً لهما، وهو على عرشه، وفوق كل شيء، تعالى عن الأشباه والأمثال] تبين بهذا أن الآيات التي شبهوا بها في إنكار ما أثبته الله لنفسه لا تدل على ما ذهبوا إليه من التأويل، وإنما هي خيالات تمسكوا لتقريرها بشبه، وقد قال الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران:7] فالواجب التمسك بالمحكم، وحمل المتشابه عليه، لا يجوز الإعراض عن المحكم والتمسك بالمتشابه، فإن هذا سبيل الذين زاغت قلوبهم، كما قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7] .
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.