ثم قال سبحانه وتعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} ، وهذا فيه إثبات كمال علم الله عز وجل، (ما بين أيديهم) يعني: ما يستقبلون، و (ما خلفهم) يعني: ما مضى، وبه تفهم أن علم الله عز وجل محيط بالمستقبلات والماضيات، فيعلم الشيء قبل وقوعه، ويعلمه سبحانه وتعالى بعد وقوعه، لا تخفى عليه خافية، ولإثبات كمال علمه أتى النفي في قوله: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} ، فما عندنا من علم مما يتعلق بالله عز وجل أو مما يتعلق بغيره من أمور الدين أو أمور الدنيا إنما هو من تعليم الله لنا، وهذا فيه إثبات كمال هذا الوصف في هذه الآية، وأنه سبحانه كامل العلم كما قال سبحانه وتعالى: {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} [الأعراف:89] ، فوسع علمه كل شيء، واعلم أن صفة العلم من الصفات التي لها تعلق بكل شيء، كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه وتقريره في الآيات التي يذكرها الشيخ رحمه الله.
المهم أننا استفدنا من قوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} إثبات صفة العلم، ومن قوله: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} إثبات كمال عمله سبحانه وتعالى، ومن فوائد قوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} أن يتضرع الإنسان إلى ربه، وأن يلجأ إليه أن يمن عليه بالعلم، وأنه لا سبيل له لتحصيل المعارف والعلوم إلا بمنة الله عز وجل، كما قالت الملائكة: {لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة:32] ، ومن قال: هذا علمي حصلته باجتهادي، وبذلي وكدي وسهر الليالي، فقد غرته نفسه، وأوبقته في المهالك.
فعلمك الدقيق أو الجليل في أمر الدنيا أو أمر الدين إنما هو من قبل الله سبحانه وتعالى، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً} [النحل:78] ، فتصور حالك أول ما خرجت من بطن أمك لا تعلم شيئاً، الذي هدى الرضيع إلى أن يلتقم ثدي أمه للرضاعة هو الله سبحانه وتعالى، فهو الذي علمه ذلك، ثم بنى هذه المعلومات شيئاً فشيئاً إلى أن تمايز الناس وتفاوتوا بما عندهم من علوم ومعارف، وكل ذلك فضل الله ومنه وإحسانه وكرمه.