قال: [ويدعون إلى مكارم الأخلاق] .
المكارم: جمع مكرمة، وهي: كل خصلة جميلة، يأمرون بمكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) ؛ فهم يعاملون الخلق بالفضائل والمحاسن، فلا سب عندهم ولا شتم، ولا لعن، ولا همز، ولا لمز، خلافاً لجميع الطوائف المخالفة لأهل السنة والجماعة؛ فإنهم يسبون ويشتمون ويلعنون ويكفرون ويفسقون ويهمزون ويلمزون، وهذا من منة الله على أهل السنة والجماعة: أنهم أكمل الفرق خلقاً كما أنهم أكمل الناس عقيدة وعملاً.
قال: [ويندبون إلى أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، ويأمرون ببر الوالدين] ، والبر يشمل كل إحسان توصله إلى والديك، (وصلة الأرحام) ، وهي دائرة على بذل الإحسان إليهم، وكف الأذى عنهم، والصبر على ما يكون من أذاهم، هذه ثلاثة أمور تحصل بها صلة الرحم، ويحصل بها أيضاً حسن الجوار.
قال: [والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل والرفق بالمملوك] .
أي: الإحسان إلى كل من يحتاج ويستحق الإحسان: اليتامى ليتمهم، والمساكين لفقرهم، وابن السبيل لحاجته وانقطاعه، والمملوك لرقه وهوانه.
[وينهون عن الفخر والخيلاء] الفخر هو: العلو بسبب صحيح، والخيلاء كذلك، لكنه أعم من حيث أن السبب قد يكون صحيحاً وقد يكون غير صحيح، أما البغي فهو العلو بغير سبب صحيح، وأهل السنة الجماعة ينهون عن العلو بسبب صحيح وبغير سبب صحيح، ولذا قال المؤلف رحمه الله في بيان معنى النهي عن الفخر والبغي.
قال: [والاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق] ، الاستطالة على الخلق بحق: هذا الفخر، كأن يكون الإنسان نسيباً أو حسيباً، أو عنده مال، أو شيء يرتفع به على الناس، ويفخر به عليهم، فهل هذا يجوز؟ لا، هذه استطالة سواء كانت بحق أو بغير حق، وهذا السبب لا يجوز الاستطالة به على الناس مهما كان.
وقوله: (أو بغير حق) ، هذا البغي، فلا يجوز الاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق.
قال: [ويأمرون بمعالي الأخلاق] .
أي: مكارم وأحاسن الأخلاق، (وينهون عن سفاسفها) ، أي: حقيرها ورديئها ورذيلها، وهذا فيه أنهم متصفون بكل خصلة جميلة، متخلون عن كل خصلة رذيلة.
وكثير من أهل السنة والجماعة يحرص على تصحيح عقده، وأن يكون موافقاً للسلف فيما يتعلق بالعقيدة من الأسماء والصفات وغير ذلك مما مر، لكن هذا الجانب نغفل عنه كثيراً، والسبب: أننا نظن أن الإنسان يكفيه أن يكون متصفاً بالحق أو حاملاً للحق عن أن يكون متخلقاً بخلق حسن، والحق في ذاته قوة لا إشكال فيها، لكن لابد من خصلة تقرب هذا الحق إلى الناس وترغبهم فيه؛ ولذلك كان أهل السنة والجماعة يعظمون الحق ويرحمون الخلق، فهم رحمة للخلق بما معهم من جميل الصفات وكريم الخصال.
قال رحمه الله: [وكل ما يقولونه ويفعلونه من هذا وغيره فإنما هم فيه متبعون للكتاب والسنة - أي ليسوا مبتدعين - وطريقتهم هي دين الإسلام الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم.
لكن لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة، وفي الحديث عنه أنه قال: (هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) ، صار المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب هم أهل السنة والجماعة] .
هذا جواب لسؤال مقدر وهو: لماذا لم يكتف أهل السنة والجماعة بوصف الإسلام الذي اتصف به الصدر الأول من هذه الأمة؟ ولماذا خصوا أنفسهم بهذا الاسم وعرفوا به، وهو أهل السنة الجماعة؟ الجواب: أن الإسلام الخالص من الشوب هو ما كان مستق من الكتاب والسنة، وأصبح الانتساب للإسلام لا يميز الفرقة الناجية من غيرها، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر بأن الأمة ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة، وكل هذه الفرق تقول: إنها مسلمة، وتنتسب إلى الإسلام؛ فاحتاج أهل السنة والجماعة إلى أن يتميزوا بوصف دل عليه الكتاب والسنة، وهو وصفهم بهذا الوصف، وهو أهل السنة والجماعة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) ؛ فكلام الشيخ رحمه الله هنا جواب عن سؤال مقدر.
قال رحمه الله: [وفيهم الصديقون والشهداء والصالحون، ومنهم أعلام الهدى ومصابيح الدجى، أولو المناقب المأثورة والفضائل المذكورة، وفيهم الأبدال وأئمة الدين الذين أجمع المسلمون على هدايتهم] .
هذه سمة لا توجد في غير أهل السنة والجماعة على اختلاف الطوائف؛ فإنك إذا سألت أي فرقة من الفرق: من سلفكم في هذا الأمر؟ أتوك بأقوام في القرون الخارجة عن القرون المفضلة، وإن بالغ في الانتساب إلى أحد من القرون المفضلة وجدته منقوصاً في دينه، كالذين ينتسبون إلى واصل بن عطاء وجهم بن صفوان وعمرو بن عبيد ومعبد الجهني وغيرهم ممن عرفوا بالبدعة في القرون المفضلة هذا أولاً، ثانياً: أن تكون النسبة لا حقيقة لها.
أما أهل السنة والجماعة فهم منتسبون إلى أئمة أجلة في القرون المفضلة، وفي القرون التي تلتهم وتبعتهم، وهذه السمة لا توجد في غير أهل السنة والجماعة.
قال: [ومنهم الطائفة المنصورة الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة) ] .
والطائفة المنصورة هي الفرقة الناجية، فقوله: (ومنهم الطائفة المنصورة) لا يدل على أن الطائفة المنصورة أخص من الفرقة الناجية، بل الفرقة الناجية هي الطائفة المنصورة، كما ذكر ذلك المؤلف رحمه الله في أول الرسالة عندما قال: (فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة) فهما وصفان لفرقة واحدة.
بعد ذلك ختم المؤلف رحمه الله هذه الرسالة المباركة بسؤال الله عز وجل الثبات على هذا الطريق فقال: [نسأل الله أن يجعلنا منهم، وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب.
والله أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً] .
وبهذا تكون قد انتهت هذه العقيدة الواسطية التي ألفها الإمام العالم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
نسأل الله عز وجل أن يرزقنا وإياكم العلم النافع، والعمل الصالح، وأن يجعلها نافعة مباركة لنا ولكم.