قال رحمه الله تعالى: [والإيمان بالقدر على درجتين، كل درجة تتضمن شيئين: فالدرجة الأولى: الإيمان بأن الله تعالى عليم بالخلق وهم عاملون بعلمه القديم الذي هو موصوف به أزلاً وأبداً، وعلم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال، ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق: (فأول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، جفت الأقلام وطويت الصحف) كما قال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70] ، وقال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22] وهذا التقدير التابع لعلمه سبحانه يكون في مواضع جملة وتفصيلاً] .
الإيمان بالقدر على درجتين أي: على مرتبتين، وكل درجة تتضمن شيئين، فتكون مراتب الإيمان بالقدر على هذا أربع مراتب، وأول هذه المراتب: الإيمان بأن الله تعالى علم ما الخلق عاملون بعلمه القديم، والخلق يشمل الجن والإنس والملائكة وكل شيء مما فيه حياة، وما لا حياة فيه، فكل ذلك من خلق الله سبحانه وتعالى، فهو يعلم ما هم عاملون بعلمه القديم، أي: بعلمه المتقدم الأزلي السابق لوجود الحوادث.
قال: (الذي هو موصوف به أزلاً وأبداً) ؛ لأن العلم من الصفات الذاتية كما تقدم بيانه.
قال: (وعلم جميع أحوالهم) يعني: الله علم بهم على وجه الإجمال، وعلم بجميع أحوالهم، وهذا فيه أن علمه سبحانه وتعالى أحاط بدقائق العلوم، وليس فقط بالكليات، بل حتى بالجزئيات والفرعيات، علم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق.
ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق، فهذا العلم الثابت له سبحانه وتعالى علم مكتوب في اللوح المحفوظ، فاللوح المحفوظ حوى كل ما الخلق عاملون من الدقيق والجليل، وتسميته باللوح المحفوظ؛ لأنه محفوظ من التغيير والتبديل، ومحفوظ من الزيادة والنقصان.
وسمي في الكتاب بالحفيظ أيضاً، وهو حفيظ بمعنى: محفوظ، وحفيظ بمعنى: حافظ.
علم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي، وهذا يتعلق بفعل العبد، فالطاعات والمعاصي من فعل العبد، والأرزاق من فعله سبحانه وتعالى، والآجال -أيضاً- من فعله سبحانه وتعالى.
ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلائق، وما فائدة هذه الكتابة؟ فائدة هذه الكتابة إثبات هذا العلم، وأنه علم لا يتغير ولا يتبدل كما قال موسى في جواب فرعون عندما قال له: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:51-52] فأثبت علمها عنده سبحانه وتعالى، وأثبت أن هذا العلم في كتاب ثم قال: {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} فما كان مكتوباً فهو محفوظ مع أن الله جل وعلا غني عن هذه الكتابة، وليست خشية النسيان تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً؛ وإنما ذلك لأجل إثبات هذه المعلومات وحفظها؛ ولأجل ما قدره من استنساخ الملائكة منها وأخذهم عنها.
قال: (فأول ما خلق الله القلم قال له: اكتب) أي أنه: أول ما خلق القلم أمره بالكتابة في أول خلقه، فالقلم أمر بالكتابة في أول خلقه، فقال القلم للرب سبحانه وتعالى: ما أكتب؟! قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، ما هو كائن يعني: ما هو حاصل وما هو جار وما سيوجد إلى يوم القيامة، وهذا يشمل كل ما هو حادث في الكون، فإنه مكتوب في هذا اللوح العظيم، وفي هذا الكتاب المبين، فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه.
وهذا القلم هو أحد الأقلام التي جرت في المقادير، فهي أقلام متعددة تكلم عليها ابن القيم رحمه الله، ولا نريد الإطالة بذكر ما ذكر رحمه الله، وهذا القلم الذي كتب الله سبحانه تعالى به مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة هو أعظمها.
قال: (فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه) أي: لم يكن ليتجاوزه ويتعداه (وما أخطأه) يعني: ما تجاوزه وتعداه إلى غيره (لم يكن ليصيبه) يعني: لم يكن ليرجع عليه، ولا أن ينال منه شيئاً بل ذلك كله وفق تقدير عزيز حكيم.
قوله: (جفت الأقلام، وطويت الصحف) هذا فيه بيان أن ما كان من تقدير فإنه قد فرغ منه علماً وكتابة؛ ولذلك قال: جفت الأقلام، أي: انتهى الأمر، فليس هناك علم يحدث للرب جل وعلا لم يكن يعلمه قبل، بل علمه لا يسبق بجهل سبحانه وتعالى، فقوله: جفت الأقلام، وطويت الصحف، بناءً على أن ما كتبه الله من مقادير الخلائق فإنه قد فرغ منه.
وقوله: (جفت الأقلام) يفهم من هذا أنه ليس الذي يكتب به قلم واحد، بل الذي يكتب به أكثر من قلم، لكن الذي كتب في اللوح المحفوظ هو القلم الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (فأول ما خلق الله القلم قال له: اكتب) وهذه الدرجة تضمنت مرتبتين: المرتبة الأولى: العلم، والثانية: الكتابة.
قال رحمه الله: (كما قال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} ) هذه الآية فيها الإعلام بأن الله سبحانه وتعالى أحاط علمه بما في السماء والأرض، وأن هذا العلم في كتاب؛ ولذلك قال: {إِنَّ ذَلِكَ} أي: علمه سبحانه وتعالى بما في السماء والأرض في كتاب، أي: مكتوب في اللوح المحفوظ: {إِنَّ ذَلِكَ} أي: العلم والكتابة {عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أي: عليه جل وعلا هين سهل.
والآن لو قيل لك: اكتب ما يجري منك في يوم واحد: كل ما يصدر منك من قول أو فعل، أو يدور في خلدك! أو يدور في قلبك! أو يطرأ على بالك! سجل كل ذلك! صعب هذا في يوم واحد، فكيف بالذي قدر مقادير الأشياء منذ تلك الساعة إلى قيام الساعة وكل ذلك مكتوب مسجل؟! سبحان الله! {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} ، وقال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [الحديد:22] أي: إلا في مكتوب {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} وهذا فيه سبق الكتابة للخلق {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} أي: من قبل أن نخلقها {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أي: كتابة ذلك على الله يسيرة، وعلم ذلك على الله يسير، ومن لازم الكتابة ثبوت العلم؛ لأنه لا يكتب إلا المعلوم فهذه الآية دلت على هاتين المرتبتين في هذه الدرجة.