قال: [وأما الشفاعة الثالثة فيشفع فيمن استحق النار، وهذه الشفاعة له ولسائر النبيين والصديقين وغيرهم، فيشفع فيمن استحق النار ألا يدخلها، ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها] .
هذا النوع الثالث من الشفاعة، وهو الذي خالف فيه المعتزلة والخوارج وغلاة المرجئة.
أما المعتزلة والخوارج فأنكروا الشفاعة، وقالوا: لا شفاعة، فمن دخل النار لا يخرج منها بل هو خالد فيها.
وأما غلاة المرجئة فأيضاً أنكروا هذا النوع من الشفاعة، وقالوا: إنه لا يشفع؛ لأنه لا يدخل النار أهل الإيمان، فقالوا: إذا كان لا يدخل أهل الكبائر النار بسبب كبائرهم فإنه لا حاجة إلى الشفاعة، فأنكروا هذا النوع من الشفاعة، وهذا قل من ينبه عليه في هذه الفرقة المخالفة.
أما عامة المرجئة فإنهم يثبتون هذا النوع من الشفاعة كأهل السنة وغيرهم.
فالشفاعة التي وقع فيها الخلاف بين الفرق هي الشفاعة لأهل الكبائر، فالوعيدية من المعتزلة والخوارج نفوا الشفاعة، وقالوا: لا يمكن أن يشفع لأحد في الخروج من النار، فمن دخلها فإنه لا يخرج منها.
وقابلهم غلاة المرجئة فقالوا: لا يدخل أهل الكبائر النار أصلاً، وعليه فلا شفاعة.
فقابلوهم في التعليل، وإن كانوا وافقوهم في النتيجة من حيث إنكار الشفاعة.
والذي عليه سلف الأمة -وهو ما دل عليه الكتاب والسنة- أن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره يشفعون في أهل الكبائر، وأن ممن يدخل النار من يخرج منها، ولكن اعلم أن من يدخل النار نوعان: فنوع دخولهم أبدي، وهم أهل الكفر، فهؤلاء لا يخرجون منها، قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72] .
ومنهم من يدخل ويعاقب ويمحص ويخلص، ثم بعد ذلك يخرج، وهذا في حق أهل الكبائر المسرفين على أنفسهم بالذنوب والمعاصي مع وجود الأصل الإيمان، وهم الذين وردت فيهم الأحاديث: (لا يبقى في النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان) .
يقول رحمه الله: [فيشفع فيمن استحق النار -أي: استوجبها- ألا يدخلها] .
هذه شفاعة دفع، أي: قبل أن يحل به العقاب وينزل يدفع عنه، وكذلك يشفع فيمن دخلها أن يخرج منها، وهذه شفاعة رفع، وكلتاهما يثبتها أهل السنة والجماعة للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال ابن القيم رحمه الله في تعليقه على سنن أبي داود عند ذكر هذه الشفاعة: ولم أقف لها على دليل.
يعني: الشفاعة فيمن استحق النار ألا يدخلها، وكذلك قال شيخنا رحمه الله: لا أعلم لها دليلاً.
أي: الشفاعة في قوم استحقوا النار ألا يدخلوها.
وقد أشار بعض أهل العلم إلى دليل يمكن أن يكون مستنداً في إثبات هذه الشفاعة التي أثبتها أهل السنة والجماعة، وهو ما جاء في الصحيح أن الأنبياء عند الصراط يكون قولهم الذي يلهجون به: (رب سلم سلم) ، فإنه في رواية سهل في صحيح البخاري قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فيوضع الصراط ثم تحل الشفاعة فأقول: رب سلم سلم) أو: (وعند ذلك حلت الشفاعة فأقول: رب سلم سلم) وهذا دعاء بالسلامة لهم -وهم سالمون من النار- ولأممهم، وهذا الأثر يصلح دليلاً على هذا النوع من أنواع الشفاعة، وهو الشفاعة فيمن استحق النار ألا يدخلها.
واستحقاقه لها كان برجحان سيئاته على حسناته، فهذا هو سبب استحقاق النار، وسبب استحقاق الجنة رجحان الحسنات على السيئات.
بقيت حالة، وهي مساواة الحسنات بالسيئات، وهذا أيضاً مما يستحق به الإنسان النار؛ لأن مساواة الحسنات والسيئات لا تنفعه في تخليصه من المؤاخذة إلا أن ترجح الحسنات على السيئات، فيعاقب -إن شاء الله- حتى تخف كفة السيئات وتثقل كفة الحسنات، وعند ذلك يكون ممن ثقلت موازينه فيدخل الجنة.
فيشفع فيمن استحق النار، وهذه الشفاعة له -أي: للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ولسائر النبيين والصديقين وغيرهم، فهي ليست خاصة به صلى الله عليه وسلم.
لكن اعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم نصيبه من هذه الشفاعة أوفر وأعلى من غيره، فالنبي صلى الله عليه وسلم تميز في الشفاعة بأمرين: الأمر الأول: أن الله سبحانه وتعالى خصه بأنواع منها.
الثاني: أن ما يشاركه فيها غيره حظه ونصيبه منها أوفر وأعلى، فهو أوفر الشافعين نصيباً، وأعلاهم حظاً؛ ولذلك فقوله: [وهذه الشفاعة له ولسائر النبيين والصديقين وغيرهم] لا يفيد التسوية بين هؤلاء، بل هم على درجات فيها.
قال: [ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها] .
وهذا كثير في السنة مستفيض متواتر، وهو الشفاعة في أقوام دخلوا النار أن يخرجوا منها، وهذا الذي خالف فيه من خالف من الوعيدية وغلاة المرجئة كما تقدم تقريره وبيانه.
وأهل السنة والجماعة يثبتون هذا النوع من الشفاعة للنبي صلى الله عليه وسلم، ولسائر النبيين والصديقين، بل وللملائكة كما سيأتي بيانه.