قال رحمه الله: [يمر الناس عليه على قدر أعمالهم] .
المراد بالناس هنا أهل الإسلام، فإنه لا يمر على الصراط إلا مسلم، وبه نفهم أن المراتب المذكورة فيما سيأتي هي مراتب أهل الإسلام، فإن أهل الكفر يتبعون معبوداتهم وطواغيتهم قبل أن يعبر الناس الصراط، فأولئك يلقون فيها ابتداءً ولا يمرون على صراط، ثم لا يبقى إلا هذه الأمة وفيها منافقوها.
فيعطى أهل الإيمان من النور على قدر أعمالهم، وأما أهل النفاق فلا نور لهم فيلقون في النار -نعوذ بالله من الخسران- ولا يمرون على الصراط، وتفاوت سير الناس على الصراط هو بقدر تفاوتهم في أعمالهم، وبقدر ما يمن الله به عليهم من النور، فمن كان نوره مشرقاً واسعاً كان مروره سريعاً، ومن كان نوره دقيقاً قليلاً حسيراً فإنه يسير سيراً بطيئاً.
فالناس في ذلك اليوم في ظلمة شديدة وكرب عظيم، حتى إنه إذا ضرب الصراط ألجمت الألسن، فلا يتكلم إلا الأنبياء، وكلامهم: (اللهم سلم سلم! رب سلم سلم!) ، فهذا دعاء الأنبياء عند المرور على هذا الصراط، وهو أمر عظيم إذا تصوره الإنسان بعقله، وأداره في فكره، وأنه سيكون ممن يمر على هذا وجل قلبه، فتخفف من الذنوب بالتقلل منها، والتوبة والاستغفار؛ لأنه لا يكون النجاء من هذا الموقف إلا بالعمل الصالح، ومن زاد يقينه ورسخ إيمانه بهذه الأمور أفلح ونجح، ومن أخذها على أنها علم نظري ما استفاد.
فالناس في هذا الموقف في كرب عظيم، والمرور على الصراط هو المشار إليه في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:71] ، فإن هذه الآية خطاب لأهل الإسلام وأهل الكفر.
لكن الورود يختلف، فورود تعقبه السلامة، وهذا نصيب الذين قال فيهم جل وعلا: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم:72] .
وورود إقامة، وهو الذي قال فيه جل وعلا: {وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم:72] ، نعوذ بالله! فهؤلاء سيبقون فيها، والظلم هنا يشمل الظلم الأعظم وهو الكفر والشرك، ويشمل ما دون ذلك، وبقاؤهم فيها بقدر ما معهم من الظلم.
فأهل الكفر لا خروج لهم منها، وأما أهل المعصية فإنه يبقون فيها ما شاء الله أن يبقوا ثم يخرجون بعد ذلك إما بشفاعة أو بإكمال العذاب الذي استحقوه على سيئاتهم.
ففهمنا من قول المؤلف رحمه الله: [يمر الناس] أن الناس هنا لفظ عام أريد به الخصوص، وهم أهل الإسلام، وهل يمر الناس على قدر شبابهم ونشاطهم وقوتهم وصحتهم؟ الجواب: لا، بل يمر الناس على قدر أعمالهم، فمطايا الناس في ذلك الموقف أعمالهم، فبها ينجون وبها.
قال رحمه الله: [فمنهم من يمر كلمح البصر -وهذا أسرع ما يكون- ومنهم من يمر كالبرق الخاطف -وهذا قريب في السرعة من الذي قبله- ومنهم من يمر كالريح الشديدة، ومنهم من يمر كالفرس الجواد، ومنهم من يمر كركاب الإبل -أو كراكب الإبل، وركاب الإبل المقصود بها من يركب الإبل التي تستعمل لقطع المسافات والسفر- ومنهم من يعدو عدواً -وهو من يشتد ركضاً- ومنهم من يمشي مشياً، ومنهم من يزحف زحفاً، ومنهم من يخطف ويلقى في جهنم] .
فإذا قيل: كيف يخطف؟ فالجواب أنه قال: [فإن الجسر عليه كلاليب] ، والكلاليب: جمع كلاب أو كلوب، والمراد به في اللغة: حديدة منحنية الرأس، ويطلق أيضاً على ما كان منحني الرأس من غير الحديد.
وهذه الكلاليب تختطف الناس بأعمالهم، فهي التي تعيقهم عن السير، فسالم ناجٍ، ومخدوش، ومكردس في النار نعوذ بالله من الخسران، والنار التي يلقى فيها من يخطف هي نار العصاة، وليست نار أهل الخلود؛ ولذلك قال: [فمن مر على الصراط دخل الجنة] ، وسيأتي بيان ذلك في الشفاعة، فإن نار أهل المعصية ليست كنار أهل الكفر، وإن كان المكان واحداً، فالمكان من حيث المنظر واحد، ولكن العذاب مختلف متفاوت، وقد دلت السنة على أن النار دركات، وأسفلها نصيب المنافقين.