نصب الموازين

قال رحمه الله: [وتنصب الموازين] والموازين جمع ميزان، والميزان جاء الخبر عنه في كتاب الله عز وجل وفي سنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

أما في الكتاب ففي قوله جل وعلا: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:47] ، وكذلك في الآيات التي ذكرها المؤلف: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} [المؤمنون:102-103] .

وأما السنة ففي قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) ، وهو مما تواتر النقل بثبوته عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فالميزان جاء فيه أحاديث متواترة، وهو ميزان حقيقي غير العدل؛ لأن من المئولة من يقول: المراد بالميزان: ظهور العدل.

والصحيح أنه ميزان حقيقي كما أخبرت به النصوص، ودلت عليه الآثار، ومضى عليه سلف الأمة الأخيار، وأما كيفية هذا الميزان، فهو كسائر ما أخبرنا به مما لا تدركه عقولنا من أمور الغيب، نعرف أن الميزان يوزن به، أما تفصيل الكيفية فلا ندركه، هل هو نظير الموازين التي نعرفها في الدنيا أو لا؟ الله أعلم بذلك، لكن هو ميزان توزن به الأعمال، له كفتان كما دلت السنة، كفة توضع فيها الحسنات، وكفة توضع فيها السيئات، وهل هو ميزان واحد أو موازين متعددة؟ جاء لفظ الميزان في الكتاب والسنة مفرداً ومجموعاً، فمن العلماء من قال: إنه ميزان واحد توزن به أعمال الخلائق كلهم، ومنهم من قال: إنها موازين، ومنهم من قال: إن لكل أمة ميزاناً، ولا يجرؤ الإنسان على الجزم هل هو ميزان واحد أو هي موازين متعددة، لكن ظاهر السنة التعدد، وقال بعض أهل العلم: إن ظاهر الكتاب والسنة التعدد، والإفراد لا يعارض التعدد؛ لأن الإفراد باعتبار الجمع.

ومن قال: بأنه ميزان واحد، قال: الجمع المراد به: اختلاف الموازين باختلاف الموزون لا باختلاف الميزان نفسه، يعني: باعتبار اختلاف ما يوزن، لا باعتبار اختلاف الميزان نفسه.

على كل حال نحن نؤمن بما دلت عليه النصوص من إثبات هذا الذي أثبته الله عز وجل، وهو الميزان الذي توزن به الأعمال.

وقوله: [تنصب الموازين] أي: تقام، كما قال الله عز وجل: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:47] ، موازين العدل، فتوزن فيها أعمال العباد.

فأفادنا المؤلف رحمه الله أن الذي يوزن هو أعمال العباد، ودليل ذلك قوله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المؤمنون:102] ، (من) هنا شرطية، وجواب الشرط في قوله: {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المؤمنون:102] ، والموازين هنا هي ما يوزن من الأعمال، فأعمال العباد توزن فتوضع الحسنات في كفة، والسيئات في كفة، فإن رجحت حسناته فأولئك هم المفلحون، فمعنى ثقل الموازين: رجحان الحسنات على السيئات، ومعنى خفة الموازين رجحان السيئات على الحسنات، {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون:103] ، نعوذ بالله من الخسران! وهذا فيمن خفت خفة لم يبق له معها حسنة، وهؤلاء هم الكفار الذي قال الله فيهم: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] ، فلا يقام لهم وزن يوم القيامة.

والنصوص تذكر المتقابلين، تذكر مآل أهل الإيمان، ومآل أهل الكفر، وبينهم درجات، فالكفر دركات، والإيمان درجات، والنصوص تبين مآل منتهى الفريقين؛ ولذلك من خفت موازينه من أهل الإيمان بأن ثقلت سيئاته على حسناته ومعه أصل الإيمان، هل يكون في جهنم خالداً؟ لا، لا يكون في جهنم مخلداً، إنما يكون فيها إلى أن تمحص سيئاته، ويخلص من ذنوبه، ثم ينقل من النار إلى الجنة.

وقد دلت نصوص أخرى على أن الميزان يكون للعامل نفسه؛ ومن ذلك حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حيث قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ساقيّ ابن مسعود أثقل في الميزان من جبل أحد) ، فدل ذلك على أن الذي يوزن العامل نفسه.

ودلت نصوص أخرى على أن الذي يوزن هو الكتاب لا العمل كما في حديث صاحب البطاقة، فإنه يؤتى بالبطاقة وتوضع في كفة، والبطاقة هي سجل العمل، فما الجمع بين هذه الآثار؟ قال بعضهم: إن الوزن يكون لهذا ولهذا ولهذا، فالكل يوزن.

والظاهر أن الأصل في الوزن يكون للعمل، وأنه قد يوزن العامل، وقد يوزن سجل العمل، لكن الأصل في الوزن إنما هو للعمل كما دلت عليه الآية التي ذكرها المؤلف، وكما دل عليه قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7-8] ، فالمثقال هنا: معيار وزن، والموزون هو العمل، فأكثر النصوص على أن الوزن للعمل.

فنقول: الأصل في الوزن للأعمال، وقد توزن الكتب والسجلات، وقد يوزن العامل.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015