قال المصنف رحمه الله: [فصل: وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله الإيمان بما أخبر الله به في كتابه، وتواتر عن رسوله، وأجمع عليه سلف الأمة، من أنه سبحانه فوق سماواته على عرشه، عليٌّ على خلقه] .
هذا المقطع فيه إثبات علو الله سبحانه وتعالى، وذكر المصنف أدلته إجمالاً بعد إن بين ذلك بنوع من التفصيل فيما تقدم، فإنه في فصل الآيات ذكر الآيات الدالة على علو الله عز وجل بأنواع من الدلالة، وكذلك فيما ذكره من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بين ثبوت ذلك بالنصوص النبوية الدالة على علو الله عز وجل على خلقه.
ثم ذكر الدليل الثالث الذي يستند إليه أهل السنة والجماعة في إثبات علو الله عز وجل وهو: إجماع سلف الأمة، فقال: (وأجمع عليه سلف الأمة) ، وهذه الأدلة واضحة جلية بينة لا مرية فيها ولا شك، فإن من تأمل النصوص وكلام السلف أيقن إيقاناً هو من العلوم الضرورية أنهم كانوا يعتقدون بأن الله سبحانه وتعالى فوق كل شيء، وهذا مما استقرت عليه كلمتهم واتفقت ولا خلاف بينهم في هذا، والذين ينكرون العلو ينكرونه بشبه باردة، وقد سول لهم الشيطان هذه الشبه وزينها في أعينهم لرد ما استقر في الفطر، وأجمعت عليه الأمم.
ومن أبلغ شبههم التي ينفون العلو لأجلها قولهم: إن إثبات العلو يقتضي أن الله جسم، وإثبات العلو يقتضي الجهة والحيز والمكان، وكل هذه ترهات وضلالات لا تستند على حق، بل في أعظم مجمع في موقف عرفة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب لما أشهد الله سبحانه وتعالى على الأمة بأنه قد بلغ كان يرفع أصبعه إلى السماء وينكسها عليهم، وهذا من تحقيق معنى العلو لرب العالمين، كما جرى ذلك في عدة صفات كصفة السمع والبصر، وكصفة القبض للسماوات والأرض، فإن فعل النبي صلى الله عليه وسلم ليس تشبيهاً ولا تمثيلاً، إنما هو لتحقيق اتصافه سبحانه بهذا المعنى، ولم ينكر هذا أحد من الصحابة رضي الله عنهم، ولم يقولوا: كيف تشير إلى رب العالمين؟! ولو أننا طلبنا منهم نصاً يعتمدون عليه في إبطال هذه الصفة العظيمة لرب العالمين لما أتوا بشيء، وإنما يستدلون بدليل جمهور علماء الأمة على أنه موضوع، ومنهم من قال: إنه غريب، ولكن الجمهور على أنه موضوع، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في وصف ربه: (هو الذي أين الأين) ويتركون ما دلت عليه النصوص الدالة على علوه سبحانه وتعالى على خلقه.
ثم إن علوه على خلقه سبحانه وتعالى ثابت له بجميع أنواع الأدلة، ولا مناص لأهل التأويل من إثباته؛ ولذلك ذكر عن أبي المعالي الجويني أنه كان يخطب على المنبر ويقول: كان الله ولا عرش، وهو على ما كان عليه قبل أن يخلق العرش، يريد أن ينفي الاستواء، فأتى أبو الفضل جعفر الهمذاني فقال له: يا أستاذ! دعنا من العرش واستواء الرب عليه، بماذا تجيب عن هذه الضرورة التي يجدها كل أحد في قلبه: ما قال قائل قط: يا رب! إلا وجد في قلبه تحركاً إلى طلب العلو قبل حركة لسانه؟ فما كان منه إلا إن ضرب رأسه وقال: حيرني الهمذاني، حيراني الهمذاني.
وهذا هو منتهى كل من عارض ما دل عليه الكتاب والسنة، كما قال تعالى: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} [الذاريات:8] ، وقال جل وعلا: {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق:5] ، أي: مضطرب، فيه اختلاف، وحيرة، وتناقض لا يعلمه إلا الله، ولو أنهم سلموا للنصوص، واتبعوا هدي السلف الصالح في هذا لسلموا، ولقدروا الله على طريقة السلف.
ثم بين أنه سبحانه فوق سماواته على عرشه، فذكر العلو العام والعلو الخاص فقال: (فوق سماواته على عرشه) هذا العلو العام، و (على عرشه) هذا العلو الخاص، (عليٌّ على خلقه جميعاً) .