باب الوعد والوعيد ضل فيه طائفتان: طائفة غلت في النفي، وطائفة غلت في الإثبات.
وأهل السنة والجماعة سلكوا طريقاً وسطاً بين هاتين الضلالتين، فسلموا من ضلالة الإرجاء، ومن ضلالة القدرية.
نصوص الوعد والوعيد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم جاءت عامة مطلقة، وهذه النصوص العامة المطلقة عطل عمومها المرجئة، فقالوا: إنها لا تعم أهل المعاصي، إنما هي في أشخاص معينين، هذا أحد ما حملوا نصوص الوعيد عليه، وقالوا أيضاً: إن نصوص الوعيد إنما هي في الكفار، وليست في أهل الإسلام، فكل نص تضمن وعيداً فإنه ليس في أهل الإسلام، إنما هو في أهل الكفر، فخصوا عمومها، بل إن غلاة المرجئة عطلوا العموم بالكلية فقالوا: لا عموم لهذه النصوص.
وقابلتهم طائفة أخرى وهم القدرية الوعيدية الذين قالوا: إن نصوص الوعيد يدخل فيها مرتكب الكبيرة، وهي متحققة الوقوع فيه، فكل من فعل كبيرة فإنه خارج عن دائرة الإيمان، وحكمه الخلود في النار، فقالوا بتخليد أهل التوحيد في النار وذلك فرع عن إخراجهم من الإيمان بالكلية، والبدع متسلسلة يأخذ بعضها برقاب بعض، فالبدعة التي كانت في الاسم انتقلت إلى الحكم، كما سيأتينا أنهم أيضاً ضلوا في أسماء الإيمان والدين، وهذا الضلال في هذا الباب تبعه الضلال في باب الأحكام.
قوله: (وفي باب وعيد الله بين المرجئة والقدرية) البحث الآن هو في ضلالهم في الحكم، حيث حكم القدرية على أهل الإيمان بالتخليد في النار، وحكم المرجئة بأن نصوص الوعيد لا تتوجه لأهل الإسلام، ولا يدخل فيها أهل الإيمان، بل أهل الإيمان ليس لهم إلا الوعد، وأما الوعيد فهو في حق الكفار، أو أنه في شخص معين، وقالوا: يجوز ألا يعذب الله أحداً بالكلية، فتكون هذه النصوص مقصودها التهديد، وليس معناها مراداً، وإنما يقصد بها التهديد.
وأما أهل السنة والجماعة فقالوا: نصوص الوعيد عامة، ولكن الوعيد مقيد، وكذلك نصوص الوعد عامة، ولكنها مقيدة، فكما أننا نقيد نصوص الوعد بعدم الكفر، فكذلك نقيد نصوص الوعيد بعدم التوبة.
وبه نفهم أن لنصوص الوعد شروطاً وموانع، فعمومها له شروط وموانع، وكذلك نصوص الوعيد لها شروط وموانع في تنزيلها على الأفراد، وهذه مسألة مهمة إلى الغاية؛ لأن الخطأ فيها كثير، والفهم فيها حسير عند كثير من الناس، فبعض الناس قد يظن أن إطلاق الوعد أو إطلاق الحكم في أمر معين يلزم منه انطباق هذا الحكم على كل من قام بهذا الفعل، وهذه مسألة خطيرة، وهي التي أوقعت أهل التكفير في التكفير، ولم يفهموا ما نقل عن السلف مثلاً في تكفير من أنكر العلو؛ لأنه قد نقل عن السلف أنهم قالوا: من أنكر العلو فهو كافر، فهل الذين يقولون الآن من عوام المسلمين: إن الله في كل مكان، كفار بأعيانهم؟ الجواب: لا، لا نقول بذلك، وقد صرح شيخ الإسلام رحمه الله بهذا، ومثل بهذا المثال بعينه، فقال: إن من السلف من أطلق التكفير على بعض من قال بمقالات الجهمية كنفي العلو، ولكن لا يلزم من هذا أن يكون كل من قال بهذا القول فهو كافر؛ لأن التكفير لابد فيه من توافر الشروط وانتفاء الموانع، فلابد من قيام الحجة التي تنقطع بها المعذرة ممن قامت عليه.
فكذلك هنا نصوص الوعد مشروطة بعدم الكفر وهذا لا إشكال فيه، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى عن أعمال أهل الكفر الصالحة: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] ، والمقصود به: العمل الصالح، فلما لم يتوفر شرط الإيمان لم ينتفع به، فنصوص الوعد من موانع تحققها وجود الكفر، ومن شروط ثبوت فضلها لأهلها وجود الإيمان.
كذلك نصوص الوعد في كونها لمعين لابد من شرطين: الأول: الإخلاص.
الثاني: المتابعة.
ونصوص الوعد في تحقق الفضل لمعين يشترط لها الإخلاص، والمتابعة.
فمن تحقق فيه الإخلاص والمتابعة فإنه يثبت له الفضل.
ونصوص الوعيد -أيضاً- مقيدة بتوافر الشروط وانتفاء الموانع، فلو أن الإنسان فعل فعلاً مما توعد الله عليه بالنار فهل نحكم بأنه من أهل النار؟ الجواب: لا؛ لأنه لابد من أن ننظر هل الشروط متوافرة؟ فإن وجدت الشروط، فهل الموانع منتفية؟ فإن انتفت الموانع وتوافرت الشروط ثبت الحكم على المعين، ولذلك الحكم على المعين يحتاج إلى نظر، فأهل السنة والجماعة أطلقوا العمومات في نصوص الوعد وفي نصوص الوعيد، وقالوا: يدخل فيها أهل الإيمان كغيرهم، ولكن تنزيلها على أهل الإيمان لابد فيه من توافر الشروط وانتفاء الموانع، والموانع كثيرة: منها: التوبة، فالتوبة من موانع نزول العقاب.
ومنها: الحسنات الماحية من موانع حصول العقاب.
ومنها: سابق الفضل والعفو من الله جل وعلا، وهذا أيضاً من موانع حلول العقاب والوعيد.
المهم أن الموانع متعددة، ولذلك كان أهل السنة والجماعة وسطاً بين هاتين الضلالتين، بين المرجئة الذين قالوا: لا يتوجه نص من نصوص الوعيد إلى أهل الإسلام، وبين القدرية الذين جعلوا نصوص الوعد حكماً على الأفراد دون نظر إلى توافر الشروط وانتفاء الموانع، فجعلوا نصوص الوعيد في حق كل أحد، فكل من ارتكب كبيرة فإنه مخلد في النار، هذا من حيث الحكم.