وأما مسألة رؤية الله عز وجل بالقلب في الدنيا، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه رأى ربه بقلبه، وهو ثابت عن ابن عباس كما في صحيح مسلم أنه قال: (رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه بقلبه).
وفي صحيح مسلم أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: (رآه بفؤاده مرتين).
وأما الرواية التي فيها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه مرتين، مرة ببصرة ومرة بفؤاده)، فلا تصح، وهي معارضة لما ثبت في صحيح مسلم: (أنه رأى ربه بفؤاده مرتين).
ومعنى رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه بقلبه: أن الله سبحانه وتعالى جعل في قلبه بصراً يرى ربه به حقيقة، وهذا ما ذكره شراح هذا الحديث.
وأما رؤية المؤمنين لربهم في الدنيا: فإن الصحابة والتابعين والأمة من بعدهم على جواز رؤية المؤمنين لربهم بقلوبهم، وأنها جائزة وواقعة، وأنها ليست لكل أحد، وإنما تكون لبعض الناس، وهذه الرؤية تكون بالقلب لبعض المؤمنين، وهي ليست رؤية لذات الرب وصفاته حقيقة، وليس المرئي بقلب الإنسان هو نفسه الرب تعالى، ولهذا تختلف الرؤية القلبية عن بعض المؤمنين من شخص لآخر.
وقد بحث هذه المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وأشار إليها عند حديثه عن الكشوفات في المجلد الخامس من الفتاوى صفحة (251)، فقال: [ومن رأى الله عز وجل في المنام فإنه يراه في صورة من الصور بحسب حال الرائي، إن كان صالحاً رآه في صورة حسنه، ولهذا رآه النبي صلى الله عليه وسلم في أحسن صورة، والمشاهدات التي قد تحصل لبعض العارفين -يعني: الأولياء والصادقين- في اليقظة كقول ابن عمر لـ ابن الزبير لما خطب إليه ابنته في الطواف: أتحدثني في النساء ونحن نتراءى الله عز وجل في طوافنا؟! وأمثال ذلك، إنما يتعلق بالمثال العلمي المشهود، لكن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه فيها كلام ليس هذا موضعه، فإن ابن عباس قال: رآه بفؤاده مرتين.
فالنبي صلى الله عليه وسلم مخصوص بما لم يشركه فيه غيره، وهذا المثال العلمي يتنوع في القلوب بحسب المعرفة بالله والمحبة له تنوعاً لا ينحصر].
فمقصود شيخ الإسلام رحمه الله: أن الإنسان عندما يكون مؤمناً بالله عز وجل إيماناً عظيماً، ويكون قلبه قريباً من الله سبحانه وتعالى فإنه يشعر في قلبه بقرب عظيم من الله عز وجل، ويوضح ذلك حديث جبريل الطويل الثابت في الصحيحين: فإنه لما سأله عن الإحسان؟ قال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، فقوله: (أن تعبد الله كأنك تراه)، المقصود: رؤية القلب، يعني: استحضار مراقبة الله عز وجل وعظمته، وأسمائه وصفاته في القلب استحضاراً عظيماً، يشبه الرؤية الحقيقية بالعين.
وليس هو رؤية حقيقية ولكنه يشبهه، وهذه تحصل عند خواص المؤمنين الذين يعملون الصالحات، ويجتهدون في تطبيق الأوامر الشرعية، ويحذرون من المناهي، حتى يرتفع إيمانهم إلى درجات عالية جداً، فيحصل عندهم هذا الشعور، وهذه الرؤية القلبية، وليست هي رؤية حقيقية لصفات الله سبحانه وتعالى، بل الله عز وجل له المثل الأعلى في السماوات والأرض، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].
يقول شيخ الإسلام: [وهذا المثال العلمي يتنوع في القلوب بحسب المعرفة بالله].
يعني: هو عبارة عن مثل، وأن الإنسان عندما يعبد الله عز وجل كأنه يراه، ويشعر بقرب عظيم من الله عز وجل إلى درجة أن تنكشف في قلبه معرفته بربه، فيحصل لقلبه مثال، فهذا المثال هو مثال علمي، وليس مثالاً حقيقياً يراه بعينه.
وهذا المثال العلمي هو نوع من القرب ونوع من الإحسان الذي يكون في قلب الإنسان.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: [بل الخلق في إيمانهم بالله وكتابه ورسوله متنوعون، فلكل منهم في قلبه للكتاب والرسول مثال علمي بحسب معرفته، مع اشتراكهم في الإيمان بالله وبكتابه وبرسوله، فهم متنوعون في ذلك متفاضلون، وكذلك إيمانهم بالمعاد والجنة والنار، وغير ذلك من أمور الغيب، وكذلك ما يخبر به الناس بعضهم بعضاً من أمور الغيب هو كذلك، بل يشاهدون الأمور ويسمعون الأصوات، وهم متنوعون في الرؤية والسماع، فالواحد منهم يتبين له من حال المشهود ما لم يتبين للآخر، حتى قد يختلفون ويثبت هذا ما لم يثبته الآخر.
فكيف فيما أُخبِروا به من الغيب؟!!].
فهذه الرؤية التي نثبتها ليست رؤية حقيقية لذات الله سبحانه وتعالى وصفاته.