إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.
أما بعد: ففي الدرس الماضي انتهينا من الكلام على صفة الاستواء والعلو بشيء من الاختصار، وإلا فصفة العلو أفردت بكتب مستقلة، ومن أفضل هذه الكتب التي نقلت آيات القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وكلام السلف الصالح رضوان الله عليهم كتاب: (اجتماع الجيوش الإسلامية لغزو المعطلة والجهمية) لـ ابن القيم رحمه الله تعالى.
وفي هذا الدرس سنتحدث - بإذن الله تعالى - عن موضوع معية الله سبحانه وتعالى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:4].
وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7].
{لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40].
وقول: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46].
{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128].
{وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46].
{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249]].
هذه الآيات جميعاً هي في إثبات معية الله سبحانه وتعالى، والله سبحانه وتعالى مستوٍ على عرشه، وهو في العلو سبحانه وتعالى، وفي نفس الوقت هو مع خلقه، هذه المعية التي نثبتها بمقتضى النصوص الشرعية هنا هي معية العلم والقدرة.
والمقصود بعلو الله عز وجل: هو علو القهر، والقدر، والذات، فليست المعية الواردة في هذه الآيات هي معية الذات، بل هي معية العلم، والإمام أحمد رحمه الله عندما صنف كتابه: (الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله) ذكر جملة من آيات المعية، وبين أن هذه الآيات فُهمت عند الجهمية على غير وجهها، فإن الجهمية ظنوا أن هناك تعارضاً بين آيات إثبات العلو لله عز وجل، وبين الآيات التي فيها معية الله عز وجل، وهي الآيات التي تقدمت آنفاً.
وبين رحمه الله تعالى: أن المعية في هذه الآيات ليس المقصود بها (المخالطة) وأن الله عز وجل مخالط للخلق بذاته، وإنما المقصود: أن الله سبحانه وتعالى مستوٍ على عرشه، وهو عالٍ عليهم، وأيضاً: هو معهم بعلمه وإحاطته وقدرته وسلطانه سبحانه وتعالى؛ ولهذا لما ساق آية المجادلة قال: إن هذه الآية بدئت بالعلم وختمت بالعلم، فإن بداية الآية قول الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7] فبدأ بالعلم وختمها بقوله: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7]، فدل ذلك على أن قول الله عز وجل: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4] أن المقصود بها: معية العلم والإحاطة، وأن المعية لا تقتضي المخالطة بالذات، كما فهم الجهمية.
والآيات التي تقدمت جميعاً تدل على المعية، ويمكن أن نحدد موطن الشاهد من كل آية: الآية الأولى: قول الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحديد:4] والاستواء على العرش فيه إثبات العلو.
وقوله: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4]، فقوله: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) هذا هو موطن الشاهد من الآية الذي يدل على إثبات معية الله عز وجل، والمقصود بهذه المعية هنا: معية العلم والقدرة.
وأما الآية الثانية: فسبق أن حددنا موطن الشاهد منها وبينا معناها.
الآية الثالثة: قوله تعالى: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]، والمقصود أيضاً بالمعية هنا: معية ا