ولهذه الصفة -وهي أن الله عز وجل هو الحكم، وأنه سبحانه وتعالى يحكم ما يشاء، ويفعل ما يريد، وأن الحكم لله عز وجل- لها آثار عظيمة جداً متعلقة بالعبادة: فمن ذلك: أن الحكم لله عز وجل وحده لا شريك له، فلا يجوز للإنسان أن يشرك مع الله عز وجل حكماً آخر، ولهذا يقول الله عز وجل: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:26]، الله عز وجل له الحكم، وهو الذي يشرع للناس، فلا يصح أن يشرك أحد مع الله عز وجل شريكاً في حكمه، والآية السابقة التي ذكرناها وهي قول الله عز وجل: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40] تدل على هذا المعنى، فإن العبادة حق خالص لله سبحانه وتعالى، فقد جاء في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه عندما كان رديفاً للنبي صلى الله عليه وسلم على حمار، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ قال: الله ورسوله أعلم.
قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً).
إذاً: إخلاص العبادة حق لله عز وجل، والحكم من العبادات، كما يدل على ذلك قول الله عز وجل: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40]، فهذا دليل على أن الحكم من هذه العبادات التي أمر الله عز وجل أن لا يشرك فيه معه أحد غيره.
فالذين يظنون أن السياسة لا علاقة لها بالدين ظنهم باطل، فإن السياسة الشرعية نوع من أنواع العبادة لله عز وجل، وأما السياسة الباطلة فتارة تكون شركية، وتارة تكون معصية وفسوقاً، وتارة تكون بدعة إذا كانت مخالفة لشرع الله عز وجل، وكل بحسب ما يعمل الإنسان.
ولهذا كان الدين جزءاً من أجزاء السياسة، وهي داخلة في عموم قول الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3].
فالذين يظنون من الدعاة إلى الله عز وجل أنه لا علاقة للدعوة بالسياسة، أو لا علاقة للدين بالسياسة فهؤلاء يظنون خطئاً، وأخطئوا خطئاً كبيراً جداً في فهمهم لحقيقة الدين، فإن الدين شامل لحياة الإنسان كلها، شامل لأمواله، لعلاقاته، لسياساته، لأموره العامة والخاصة، ولكل أوضاعه، وهذا هو معنى قول الله عز وجل: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] على أحد التفسيرين في الآية، وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة كل شيء حتى الخراءة، عندما يذهب الإنسان إلى الخلاء علمه صلى الله عليه وسلم ماذا يعمل؟ وكيف يفعل؟ وماذا يقول؟ ماذا يقول عند نومه؟ وماذا يقول إذا استيقظ؟ وعلم الإنسان كيف ينظف فاه بالسواك عندما يأتي إلى الصلاة، وشدد في ذلك صلى الله عليه وسلم حتى أنه قال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة).
هل تظنون أن النبي صلى الله عليه وسلم علَّم الناس هذا الأمر وترك أمورهم العامة، وما معنى الغزوات إذاً التي فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وما معنى الجهاد في سبيل الله الذي شرعه الله عز وجل وحث عليه؟ وما معنى البراءة من المشركين ومعاداتهم؟ وما معنى أحكام الجزية واسترقاق الأسرى؟ ما معنى هذه الأحكام الشرعية الواضحة لو كان هذا الجانب ليس من دين الله عز وجل، لاشك أن أي إنسان يعرف أحكام الله عز وجل، وأن الله أمر بالحكم بالشريعة، وأمر بالجهاد في سبيل الله، وأمر بالإغلاظ على المشركين وقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73]، أي إنسان يدرك هذه الأشياء جميعاً يعلم أن الله عز وجل ما أهمل السياسة، وإنما بين فيها الأحكام، وبين فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم الأحكام من قوله وفعله، وأمر الله عز وجل أن يكون الحكم له سبحانه وتعالى وحده لا شريك له.
ومن أشمل ما صدر في هذا الموضوع كتاب الدكتور عبد الرحمن المحمود: الحكم بغير ما أنزل الله أحواله وأحكامه، وهو من أنفع الكتب وأنفسها وأجودها في جمع مسائل هذا الباب، وفي ترتيبها، وفي صحة الرأي فيها.
ويقول الله عز وجل: {لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88]، والحصر يدل على الاختصاص، ويقول الله عز وجل: {أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62]، ويقول الله عز وجل: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10]، ولهذا حكم الله عز وجل يجب اتباعه في كل شيء، سواء في أمور العقائد أو الأعمال العامة أو الخاصة، لابد أن يتبع الإنسان حكم الله سبحانه وتعالى.