ملء هذه القلعة ذهبا ما عدل عندي شكر هذه النعمة، أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير». اه «1».

ولما دخل القلعة وصار داخل سورها نظر إليه وقال: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ [الحديد: 13] «2».

لم يكن الشيخ أول من دخل السجن بل سبقه إلى هذا الطريق العلماء والأئمة، وقبلهم الأنبياء والرسل.

وهو لمثل هؤلاء كالنار للذهب، لا تزيده النار إلا صفاء ونقاء ولهذا قال الشيخ كلمته المشهورة: «ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أنّى رحت فهي معي لا تفارقني. إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة» اه «3».

وقد كان هذا الامتحان والإيذاء للشيخ من أسباب انتشار دعوته وعلمه، وقال في إحدى رسائله: «ومن سنة الله: أنه إذا أراد إظهار دينه، أقام من يعارضه فيحق الحق لكلماته، ويقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ... » «4».

وضيق على الشيخ في سجنه شيئا فشيئا، ومنع دخول التلاميذ عليه، ثم صدر مرسوم بإخراج جميع أدوات الكتابة من عنده منعا له من التأليف، وبعد هذا تفرغ تفرغا تاما للعبادة والخلوة بربه، وكان يكثر من قراءة القرآن والتضرع إلى الله.

وقبل وفاته ببضعة وعشرين يوما ألمّ به بعض المرض فبقي على هذه الحالة إلى أن وافاه الأجل المحتوم في ليلة الاثنين لعشر بقين من ذي القعدة لسنة ثمان وعشرين وسبع ومائة- رحمة الله رحمة واسعة-.

وقد فوجئ الناس بهذا الخبر، وانزعجوا لذلك انزعاجا كبيرا، وحضروا زرافات وفردانا للقلعة حيث كان موجودا، وهالهم الخطب، وأغلقت المتاجر، وذكر أخوه زين الدين- الذي كان يصحبه حيث كان يصحبه في سجنه- أنه كان يقرأ هو وأخوه القرآن في داخل السجن. وأن آخر ما انتهى إليه الشيخ قبيل وفاته قوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) «5» «6».

طور بواسطة نورين ميديا © 2015