مذهب الأشاعرة في الرؤية، ملفق من مذهب أهل السنة ومذهب المعتزلة؛ فإنهم قالوا: إن الله يرى بلا جهة، وهذا الذي تقلده المتأخرة من الأشاعرة كـ أبي المعالي والرازي؛ لأنهم ينفون العلو، وأرادوا بنفي الجهة نفي العلو، وقد يوجد في كلام بعض شراح الحديث كالنووي عبارة: إن الله يرى بلا جهة، ولكن ليس مقصوده نفي العلو عن الله تعالى كما يقصد هؤلاء.
وقد كان الأشعري وقدماء أصحابه يثبتون الرؤية إثباتاً حسناً.
قول المصنف: (والرؤية حق لأهل الجنة) أراد بأهل الجنة هنا: المؤمنين، وإلا فإنهم يرونه في الجنة ويرونه قبل ذلك في عرصات القيامة.
قوله: (بغير إحاطةٍ) أي: بغير إدراك، كما في قوله تعالى: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) [الأنعام:103]، وقوله: (ولا كيفية) هذه كلمة مجملة، لو لم يعبر بها لكان أجود؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم وصف الرؤية فقال: (كما ترون القمر ..) وقال: (وكما ترون الشمس صحواً ليس دونها سحاب).
وهذا ليس من أحاديث التشبيه كما زعم بعض علماء المعتزلة، فإن التشبيه هنا تشبيه للرؤية بالرؤية وليس تشبيهاً للمرئي بالمرئي، كقوله عليه الصلاة والسلام: (أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر)، ولم يلزم من ذلك أنهم مماثلون في الحقيقة للقمر، وهذا مستقر بأصل العقل، والعرب تارة تذكر التشبيه للصفة، وتارةً تذكر التشبيه للموصوف.
قال: (وتفسيره على ما أراده الله تعالى وعلمه) هذا حرف مجمل ولا شك أن تفسير كلام الله هو على ما أراده الله وعلمه، كما قال الإمام الشافعي في الصفات: (نؤمن بما جاء في كتاب الله، وجاء في سنة رسول الله، على ما أراد الله)، وهذه جملة مجمع عليها بين السلف؛ ولكن هذا الحرف يستعمل لنوع من التفويض، وقد استعمل التفويض في الرؤية طائفة من علماء الأشاعرة الذين فسروا كلام متكلميهم في قولهم: يرى بلا جهة، فقالوا: هي رؤية علمية، وهذا رجوع لمذهب المعتزلة، حتى قال أبو حامد الغزالي: (إن الفرق بين مذهب أصحابنا ومذهب المعتزلة هو فرق لفظي).
فقوله: (وتفسيره على ما أراد الله تعالى وعلمه) هذه جملة مجملة، فلا شك أن التفسير هو على مراد الله وعلمه، ولكنه معلوم بتعليم الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه وأمته.
يذكر في كلام كثير من أهل العلم رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج، وهذه المسألة ليست من المسائل الأصول، فليست من حيث القدر والشرف كمسألة رؤية المؤمنين لربهم الثابتة في الكتاب، ومتواتر الحديث، والإجماع التام.
أما رؤية النبي عليه الصلاة والسلام لربه ليلة المعراج فإن فيها طرفاً من النزاع على طريقة أهل السنة والمتكلمين، وإنما الغلط حصل في طريقة بعض المتأخرين من أهل العلم الذين جعلوا القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة المعراج ببصره قولاً لأكثر أهل السنة، وربما قال من قال منهم بأنه قول أكثر الصحابة، ولم يخالف إلا عائشة وطائفة، وهذا غلط بيِّن؛ فإنه لم يصح هذا القول عن واحد من الصحابة، وإنما الذي صح عن جماعة من الصحابة، هو أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بفؤاده، وهذا قاله ابن عباس كما في الصحيح، وطائفة من الصحابة.
ومع هذا فما يستدل به ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، في هذه المسألة بعضه مما يصحح، وبعضه مما يخالف فيه، فإنه فسر بعض الآيات برؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه بفؤاده، في حين أن عائشة روت مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد جبريل عليه السلام.
إلا أن هذا القول المأثور عن ابن عباس رضي الله عنهما هو القول الشائع عند طائفة من السلف، وقد كان الإمام أحمد وجماعة من أئمة السنة والحديث يقيدون فيقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بفؤاده، وتارةً يقولون: إنه رآه، فيطلقون، وأُثر ذلك عن ابن عباس، قال شيخ الإسلام رحمه الله: (فما صح عن ابن عباس إما مطلقاً وإما مقيداً، فيحمل مطلق كلامه على مقيده، قال: ولم يصح عن ابن عباس ولا عن أحد من الصحابة أنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ببصره.
قال: وكذلك الإمام أحمد وأمثاله من أئمة السنة والحديث، فإن قولهم على هذا الوجه، وإن كان طائفة من متأخري أصحابنا يحكون عن أحمد وغيره من متقدمي الأئمة، ما هو من التصريح برؤية البصر، قال: وهذا من فهم كلامهم، وليس هو ما أُثر عنهم على الوجه المحقق).
فالحاصل أنه لم يصح عن صحابي من الصحابة أنه صرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ببصره، وعليه فيكون هذا القول كأنه محدث، وإن كان في الجزم بهذا بعض التردد، وقد حكى الدارمي رحمه الله وهو من متقدمي المحققين من أئمة السنة إجماع الصحابة على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرَ ربه ببصره.
وهذا الإجماع الذي حكاه الدارمي ليس هناك من الآثار المروية عن الصحابة ما يعارضه، وقد صح عن عائشة رضي الله عنها كما في الصحيحين أنها قالت لـ مسروق: (ومن حدثك أن محمداً رأى ربه فقد كذب)، ولم يحفظ عن أحد من الصحابة أنه نازع عائشة رضي الله تعالى عنها في ذلك، وإذا اعتبر الاستدلال بغير دليل الإجماع فإن ظاهر القرآن وصريح السنة، تدل على نفي رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ببصره.
أما القرآن فلأن الله تعالى لما ذكر معراج نبيه صلى الله عليه وآله وسلم قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء:1] وقال سبحانه: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:18]، فذكر في الموضعين امتنانه سبحانه وتعالى على نبيه برؤية الآيات، ولو كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه في معراجه ببصره لكان الإشادة والامتنان بذكر رؤيته لربه أظهر وأولى من الإشادة والامتنان بذكر رؤية الآيات.
وأما السنة فقد ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث عبد الله بن شقيق أنه قال لـ أبي ذر رضي الله عنه: (لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألته، فقال له أبو ذر: عمَ كنت تسأل؟ فقال: أسأله: هل رأيت ربك؟ فقال أبو ذر: أما إني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: رأيت نوراً) وفي الوجه الآخر من حديث عبد الله بن شقيق نفسه عن أبي ذر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله أبو ذر قال: (نورٌ أنى أراه).
وقد كان الإمام أحمد وبعض متقدمي أئمة الحديث يتأخرون عن تصحيح هذا الوجه من الرواية، فإن صح هذا فالمعتبر وجه واحد، وإن استقام ما ذهب إليه الإمام مسلم ومن اعتبر رأيه في هذا، فإن كلا الوجهين يكون صحيحاً ولا يكون هناك تعارض، والحق: أن جهة التعارض ليست هي الموجبة للتردد في صحة كلا الوجهين، وإنما الموجب لذلك أن وجه الرواية من حيث السؤال واحد، فإما أن يكون النبي أجاب بهذا أو أجاب بهذا، وإن كان فرض الجمع بين الجوابين ممكن وليس متعذراً؛ فقوله: (رأيت نوراً) ليس مخالفاً من حيث المعنى لقوله: (نورٌ أنى أراه)، أي أن النور حال دون رؤيته، وهذا النور الذي رآه صلى الله عليه وسلم فإنه -والله أعلم- هو نور الحجاب، فإنه ثبت في صحيح مسلم رضي الله عنه من حديث أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه).
وعليه فإن المستقر عند متقدمي السلف من الصحابة ومن بعدهم، أن يُقال: إن النبي رأى ربه بفؤاده ولا يصرح برؤية البصر.