قال: (ليس بمخلوق ككلام البرية)، وفي هذه الجملة مفارقة لمذهب المعتزلة، فإن المعتزلة تقول: إنه مخلوق.
قوله: (فمن سمعه فزعم أنه من كلام البشر فقد كفر ... إلخ).
من قال: القرآن مخلوق فقوله كفر؛ لكن قائل ذلك لا يكفر ابتداءً إلا إذا علم أن الحجة قد قامت عليه، وقد كان في زمن السلف رحمهم الله أعيان كثيرون من الجهمية والمعتزلة وغيرهم يقولون: إن القرآن مخلوق، وما كان أحدٌ من السلف يطرد تكفير أعيانهم، وذلك أن ثمة أصلين عظيمين شريفين في مسألة: التكفير لمن غلط من أهل القبلة في مسائل أصول الدين، قررهما شيخ الإسلام:
الأصل الأول: أن المقالة التي تكون في حكم الله ورسوله كفراً لا يلزم منها أن يكون كل من قالها من أهل القبلة كافراً، ومن ذلك قولهم: إن القرآن مخلوق.
وتقدم أن شيخ الإسلام يقول: (والإمام أحمد وإن تواتر عنه تكفير الجهمية الذين قالوا بخلق القرآن فإنه لم يشتغل بتكفير أعيانهم، بل قد صلى الإمام أحمد خلف بعض من يقول بخلق القرآن ودعا له واستغفر له)، ويعني بذلك الخليفة المعتصم، فإنه كان يقول بخلق القرآن تبعاً لأئمة المعتزلة، ومع ذلك فقد صلى الإمام أحمد خلفه ودعا له واستغفر له، ولو كان يرى كفره لما فعل ذلك.
وأما من قال: إن الإمام أحمد إنما فعل ذلك خلفه -أي الصلاة والدعاء- لكونه سلطاناً، ولو لم يكن سلطاناً لكفره، فهذا جاهل لا يعرف ما يقول، ومعلوم أن هذه المسائل لا تكفها مسألة السلطنة، بل كان الإمام أحمد لا يرى كفر المعتصم، والمذهب عند متأخري الحنابلة أن الفاسق لا يصلى خلفه، ولو كان الإمام رحمه الله يرى أن المعتصم كافراً لما دعا له واستغفر له وصلى خلفه، مع أن المعتصم كان ثابتاً على القول بخلق القرآن، ومع أنه سمع المناظرة، وسمع انقطاع أئمة المعتزلة بين يدي الإمام أحمد.
الأصل الثاني: أن يُعلم أن الواحد من أهل الصلاة والشعائر الظاهرة، لا يكون كافراً في نفس الأمر -أي في الحكم الباطن- إلا إذا كان ما يظهره من الصلاة والشعائر الظاهرة نفاقاً.
ومعلوم أنه لا يلزم من الحكم بكفر شخص ظاهراً أن يكون كافراً باطناً، ولا يلزم من الحكم بإسلامه ظاهراً أن يكون مسلماً باطناً، فالمنافقون عند كثير من المسلمين يحكم لهم بالإسلام مع أنهم عند الله كفار، وكان جماهير الصحابة زمن النبوة لا يعرفون عامتهم، بل إن ظاهر القرآن يدل على أن من المنافقين من كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرفه، قال الله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة:101] وقد يُكّفر أحد أعيان أهل القبلة من بعض العلماء اجتهاداً، وقد يكون هذا الاجتهاد في نفس الأمر صواباً وقد يكون غلطاً، قد يكون له من العذر الذي لم يطلع عليه ما يدفع عنه الكفر عند الله.
وهذا الأصل ليس مشكلاً كما ادعى بعض المعاصرين، فقال: إن كلام شيخ الإسلام فيه نظر، بل إن أحكم من قرر مسألة التكفير من المتأخرين هو الإمام ابن تيمية رحمه الله، وقد بناها بناءً شرعياً عقلياً؛ فإنه قال بعدما ذكر هذا الأصل: (وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بُعث بمكة كان الناس أحد رجلين، إما مؤمن ظاهراً وباطناً وإما كافر ظاهراً وباطناً، ولما هاجر إلى المدينة ظهر نوع ثالث، وهم من آمن ظاهراً وكفر باطناً.
والمؤمنون ظاهراً وباطناً على ثلاثة أقسام: فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات.
قال: فالذي يُظهِر الصلاة والصوم والحج ويعتمر ويؤذن ويقيم، لا يسمى كافراً ظاهراً وباطناً لأنه في الظاهر مسلم، قال: فدار بين كونه مؤمناً ظاهراً وباطناً وبين كونه مؤمناً ظاهراً كافراً في الباطن، قال: وإذا قلنا عن أهل البدع المخالفين لإجماع السلف: إنهم مؤمنون ظاهراً وباطناً، فإنما يعنى بهذا الإيمان: الأصل الذي يفارق الكفر، قال: وإلا فإن عامتهم ظالمون لأنفسهم، لأن مثل هذه البدع لا تكون إلا عن تقصير في متابعة أمر الله ورسوله، وهذا التقصير في العلم هو من أخص الكبائر والظلم).
ولهذا قال رحمه الله -وهذا أصل ثالث-: (إن كل من أراد الحق واجتهد في طلبه من جهة الرسول فأخطأ فإن خطأه مغفور له).
فذكر ثلاثة شروط: الأول: أن يكون أراد الحق، والثاني: أن يكون مجتهداً في طلبه، والثالث: أن يكون طلبه إياه من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال: (فمن عدم الإرادة، أو عدم الاجتهاد، أو طلبه من غير جهة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يكون كافراً، وأما من أراده واجتهد فيه من جهة الرسول فأخطأه: فإنه في الأصول الشائعة بين المسلمين أنه لا يخطئه إلا مقصر إما في مقام الإرادة، أو مقام الاجتهاد، قال: فهذا هو الظالم لنفسه).
قال: (وعامة أهل البدع، مقصرون في مقام الاجتهاد).