هذه المسألة من المسائل التي يخوض فيها الناس الآن كثيراً، والذي يظهر لي أن أغلب ما يتكلم فيه الناس من ذلك يتكلمون فيه بالمجازفة التي ليس فيها تثبت ولا تقرير علمي، ثم إن الناس يخلطون بين الأحكام العامة وبين إنزال الأحكام على الأشخاص والهيئات والجماعات، وهذا أمر عمت به البلوى ويحتاج إلى شيء من التفصيل والتقرير من قبل العلماء الراسخين، وإن كان علماؤنا كثيراً ما يبينون هذه المسائل، لكن كثرة من يتعالم ويسبق إلى الناس ويحول بينهم وبين العلماء ربما تحجب الكثير من أبناء المسلمين ومن عوام المسلمين عن معرفة أقوال أهل العلم المعاصرين، إلى حد ادعاء طائفة من الناس أن العلماء ليس لهم رأي، وأنهم لم يحسموا هذه المسألة.
وهذا جهل، فالعلماء قالوا ولا يزالوا يقولون، وقد يتورعون أحياناً عن بعض التفصيلات أو يتأنون ولا يستعجلون في بعض الأحكام التفصيلية، خاصة على المعين؛ نظراً لأنهم يعلمون أصول الاجتهاد الشرعية الصحيحة التي تنبني على التثبت أولاً، ومعرفة الواقعة تفصيلاً ثانياً، ومعرفة الشخص وما عنده وما يقوله، وتطبيق الشروط الشرعية والتأكد من انتفاء الموانع في حقه، ونحو ذلك مما يتكلم به الناس.
أقول: إن الأحكام العامة سهلة، وهذا التقعيد الذي ذكره تقعيد جيد لا يختلف عليه، لكن المشكلة في تطبيق هذه القواعد، فلذا أرى أن طلاب العلم ينبغي عليهم أن يفهموا عوام المسلمين والشباب خاصة أنه لا يجوز لكل من طلب العلم أو كان من العلماء أن يحكم في المسائل الكبرى التي تتعلق بالأشخاص والهيئات بالطريقة الفردية؛ لأن هذه المسائل خطيرة تنبني عليها أحكام خطيرة ومواقف خطيرة، فلا بد من اجتماع أهل العلم على كثير منها، هذا أمر.
الأمر الآخر: أن التكفير بالحكم بغير ما أنزل الله أكثره يتم بمجرد أخذ القرائن ووصف الأحوال، وكثير من الذين يكفرون الهيئات ونحوها يكفرون دون أن يأخذوا بالأصول الشرعية في التكفير من التثبت، ومعرفة عدم وجود الجهل، ومعرفة عدم وجود الاشتباه، ومعرفة العدول عن الاعتقاد الذي في القلب؛ لأنه قد يحكم إنسان بغير ما أنزل الله وقلبه كاره لذلك لعوارض أخرى لا نعلمها، فهو بذلك ارتكب كبيرة، لكن لا يخرج من الملة.
فأكثر ما يحدث من الحكم بغير ما أنزل الله مما لا يخرج عن الملة، فمن هنا يجب أن يتأنى طلاب العلم في إطلاق الأحكام، وألا يجاروا بعض المتعجلين أو المتعالمين أو بعض الذين يتكلمون بغير علم في مسألة إطلاق الأحكام جزافاً.
وأضرب مثلاً لمسألة جزئية ينطبق عليها الحكم العام والأحكام الخاصة: فلو أن إنساناً مسلماً بنى عقاراً من العقارات ثم أجره لأناس يعملون الفساد -كالخمارين، أو أصحاب العهر- وهو يعرف أن هذا حرام، لكنه طماع يحب الدنيا مع أنه يصلي ويصوم، بل ما أجر هذه العمارة لأصحاب الكبائر فقط، وإنما حماها لهم وضمن لهم ألا يعتدي عليهم أحد، أيكفر بذلك كفراً مخرجاً عن الملة؟ إنه يوصف بالفسق، وبالظلم، وبالفجور، وبأكل الحرام، وبكل الأوصاف الشنيعة؛ لأنه ارتكب أشنع الأعمال، لكنه ما خرج من الملة، فلا تبين منه زوجته، ولا تترتب عليه أحكام الكفر.
إذاً: فالمسألة خطيرة، خاصة مسألة الحكم بغير ما أنزل الله، والكلام فيها أكثره من الخوض بغير علم والقول على الله بغير علم، والتقاط الفتاوى القديمة والحديثة وتطبيقها على الوقائع المعاصرة خلل في الاجتهاد وخلل في تطبيق النصوص وخلل في تشخيص القضايا وتحقيق المناط فيها.
فليتق الله طلاب العلم، وليعرفوا أن الأمور لا بد من أن تؤخذ على بينة، ولا تؤخذ بالعواطف.