يتلخص عندنا الآن قولان نسبهما المؤلف لأهل السنة، وهذا فيه شيء من النظر، فهو من باب التجوز؛ إذ إن قول المرجئة قد يقول به بعض من ينتسبون للسنة وينسبون إليها، ولكنه يبقى قول المرجئة لا قول أهل السنة، فقوله: [ثم بعد هذا الاتفاق بين أهل السنة اختلفوا اختلافاً لفظياً] فيه نظر، لكن لعل هذا من باب التأثر بمذهب الأحناف مذهب الشارح والماتن.
ولا شك أن كثيراً ممن قالوا بالإرجاء، وقالوا بأن الإيمان هو التصديق والكفر هو الجحود، وقالوا بأن الكفر كفران: كفر مجازي وكفر حقيقي، لا شك أنهم لا يخرجون من عموم أهل السنة عند الإطلاق، كـ أبي حنيفة وشيخه وبعض تلاميذه وكبار الأحناف أهل الحديث منهم، لا نستطيع أن نخرجهم من أهل السنة بإطلاق، لكن هذه المسألة التي ذكرها الشيخ ليست قول أهل السنة، بل هي قول المرجئة.
فالمسألة تحتاج إلى تنبيه، فأهل العلم لا يوافقون الشارح على أن قول المرجئة قول لأهل السنة، سواء في مسألة تعريف الإيمان، أو في مسألة تقسيم الكفر.
أهل السنة يقولون: إن الكفر نوعان: كفر دون كفر، وكفر أكبر، والمرجئة يقولون: كفر حقيقي، وكفر مجازي.
صحيح أن الخلاف لا ثمرة له، بمعنى أن مؤدى الكلام واحد، فالكفر العملي هو الكفر المجازي، ونتائجه عند الفريقين سواء، بمعنى: أنه لا يخرج من الملة، وصاحبه يبقى من أهل القبلة وإن بدع وإن فسق.
والكفر الأعظم والكفر الحقيقي هو واحد عند الفريقين، في معنى ما يترتب عليه من أحكام، لكن مع ذلك فإن هذه التسمية ناشئة عن الاختلاف بينهما، فليس القول الثاني هو قول أهل السنة وإن وافقه في النهاية والثمرة، لكنه لم يقل به أحد من أهل السنة والحديث، اللهم إلا بعض أهل العلم الذين قد لا يوافقون المرجئة في أصل تعريف الإيمان.
إذاً: فملخص القول أن أهل العلم لهم في هذا قولان: قول بأن الكفر على نوعين: كفر أكبر اعتقادي، وهو يخرج من الملة، وكفر أصغر عملي لا يخرج من الملة، وهذا قول أهل السنة.
والقول الثاني: أن الكفر ينقسم إلى كفر حقيقي وهو المخرج من الملة، وهو الاعتقادي، وكفر مجازي، وهو الكفر العملي الذي لا يخرج من الملة.
فالقولان في النهاية ثمرتهما واحدة، ومؤداهما واحد، لكن منشأ التعبير يختلف، ولا يترتب عليهما فساد في النهاية في ثمرة الاعتقاد، أو انحراف في المفهوم، فالثمرة عند الفريقين واحدة، فهم لا يختلفون في الأحكام التفصيلية لنوعي الكفر، وإنما يختلفون في التسمية، والتسمية أيضاً مأخوذة من أصل الاعتقاد في الإيمان.
وهذا كمسألة القول في الذنوب، وفي مسألة العمل بالإسلام، فقد يقال: إن أهل السنة ومرجئة الفقهاء كلهم في النهاية يقرون بأنه لا بد من عمل الخيرات وترك الآثام، وإن الخلاف لفظي.
ونقول: الخلاف ليس لفظياً، نعم من الناحية العملية لا يختلفون، خاصة مرجئة الفقهاء الأوائل، فـ أبو حنيفة رحمه الله يقول: إن الإيمان هو التصديق، وقد يخرج الأعمال من مسمى الإيمان على قول من أقواله التي نسبت إليه، لكنه يعظم جوانب الأوامر وينكر المنكرات ويعظم ارتكابها، بل إنه من أشد أئمة الدين في ذلك، ففي النهاية ليس للخلاف ثمرة عملية في اعتقاد أولئك الأئمة.
لكن هناك اختلاف علمي تنبني عليه أحكام، والاختلاف العلمي له اعتباره في العقيدة، حتى وإن كانت الثمرة العملية لا تختلف، فمن الناحية الاعتقادية، ومن ناحية التقرير العلمي نجد أن المرجئة خالفوا أهل السنة والجماعة.