قال رحمه الله تعالى: [ثم بعد هذا الاتفاق بين أن أهل السنة اختلفوا اختلافاً لفظياً لا يترتب عليه فساد، وهو: أنه هل يكون الكفر على مراتب كفراً دون كفر؟ كما اختلفوا: هل يكون الإيمان على مراتب، إيماناً دون إيمان؟ وهذا الاختلاف نشأ من اختلافهم في مسمى الإيمان: هل هو قول وعمل يزيد وينقص أم لا؟ بعد اتفاقهم على أن من سماه الله تعالى ورسوله كافراً نسميه كافراً، إذ من الممتنع أن يسمي الله سبحانه الحاكم بغير ما أنزل الله كافراً، ويسمي رسوله من تقدم ذكره كافراً ولا نطلق عليهما اسم الكفر، ولكن من قال: إن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص قال: هو كفر عملي لا اعتقادي].
والكفر العملي سبق أن المقصود به كفر المعصية، وكفر الكبائر، فهو كفر لا يخرج من الملة، فيبقى صاحبه مسلماً له أحكام المسلمين، لكنه يكفر كفراً جزئياً بالمعصية الكبيرة، وهي الذنب المغلظ الذي لا يخرج من الملة.
قال رحمه الله تعالى: [والكفر عنده على مراتب، كفر دون كفر، كالإيمان عنده].
يقصد بهذا أهل السنة والجماعة أهل الحديث، فإنهم يقولون بأن الكفر على نوعين: كفر أصغر لا يخرج من الملة، وهو الكفر العملي، وهو من أكبر الكبائر، وهو كفر دون كفر.
والثاني: الكفر المخرج من الملة، وأغلبه من الكفر الاعتقادي، وقد يدخل فيه بعض أنواع الكفر العملي، مثل الإعراض عن الدين بالكلية، فإنه قد يدخل في الكفر المغلظ، وهو الكفر الأعظم المخرج من الملة، وقد يسمى ردة، وأيضاً يسمى كفراً بإطلاق، ويدخل فيه النفاق الكلي والنفاق الكامل، وغير ذلك من الألفاظ التي تعني الخروج من الملة.
وأغلب أنواع الكفر التي يقع فيها كثير من أفراد أهل القبلة وجماعاتهم من الكفر الذي لا يخرج من الملة، وهذا أمر ينبغي أن يفهم؛ لأن الناس بدءوا يخوضون في هذه المسألة بغير علم، فإن أغلب ما يقع فيه المسلمون قديماً وحديثاً من أنواع الكفر هو كفر لا يخرج من الملة، ولا يخرج الإنسان من الإسلام، ومن ذلك ما وصفت به بعض الفرق من الكفر، كالفرق الثنتين والسبعين الخارجة عن الجماعة التي توعدها النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه لا تخرج من الملة، ولذلك فإن الفرق التي خرجت من الملة لا تسمى من فرق المسلمين، ولا تدخل في الثنتين والسبعين التي ورد فيها الوعيد.
وما أطلقه بعض السلف من ألفاظ الكفر على الفرق كالمعتزلة وأوائل الشيعة والمرجئة وأكثر أهل الكلام وكذلك بعض الأشاعرة الماتريدية إنما هو كفر لا يخرج من الملة.
وهذا أمر معلوم عند أئمة المحققين، وإنما جهله الناس في الآونة الأخيرة حينما ابتعدوا عن تلقي مناهج السلف وتأصيلها ومعرفتها.
وذلك بخلاف القول بخلق القرآن، فقد اتفق السلف على أنه كفر؛ لأن الأمر فيه تبين، وبحثت هذه المسألة بحثاً مستفيضاً قامت به الحجة واستبان به الدليل وظهر فيه البرهان وأزيلت فيه الشبهات.
فالقول بخلق القرآن كفر عند جميع السلف، لم يخرج عن هذا الإجماع أحد بعد اشتهار المسألة في آخر القرن الثاني والقرن الثالث، لكن: هل كل من قال بخلق القرآن يكفر بعينه؟ هذه مسألة لا بد فيها من تفصيل: ففي بعض العصور -مثل عصر الإمام أحمد - كانت الحجة قائمة؛ لأن القضية استفاضت عند عموم الناس العوام وغير العوام، المتعلم وغير المتعلم، فجميع الناس اشتهرت عندهم قضية القول بخلق القرآن، فعرفوا أنها كفر، فمن هنا قد يجوز لبعض أهل العلم أن يطلق الكفر على كل من قال بخلق القرآن، ومع ذلك لا نعرف أن السلف كانوا يجرءون على تكفير الأعيان في هذه المسألة، إلا في حالات قليلة جداً يجزمون بأنها قامت فيها الحجة وانتفت فيها الشبهة.
وفي بعض العصور وبعض الأوقات تكون المسألة غامضة ليست واضحة عند عموم الناس وإن اتضحت عند أهل العلم، فمن هنا لا نستطيع أن نجزم بأن كل من قال شيئاً من ذلك يكفر، بل لا بد من بيان الحجة واجتماع الشروط وانتفاء الموانع في هذه المسألة.
والدليل على ذلك: أنا لو أتينا إلى عامي لا يعرف هذه المسألة أبداً وسألناه ربما يجيب بغير الحق، فمن الخطأ أننا نقول بأنه يكفر لأول وهلة قبل أن نبين له الحق.
إذاً: فالقاعدة سليمة، لكن التطبيق يختلف من عصر إلى عصر ومن حال إلى حال ومن شخص إلى شخص، فليس كل من قال بالكلام الكفري يكفر، وأنا أرى أنه في عصرنا هذا من الصعب أن نمتحن الناس في هذه المسائل ونكفر كل من قال بهذا القول الكفري إلا بعد البيان وإقامة الحجة.
قال رحمه الله تعالى: [ومن قال: إن الإيمان هو التصديق، ولا يدخل العمل في مسمى الإيمان، والكفر هو الجحود، ولا يزيدان ولا ينقصان؛ قال: هو كفر مجازي غير حقيقي].
هذا قول مرجئة الفقهاء أو طائفة منهم، وهؤلاء غير المرجئة الأوائل الذين قالوا: إن الإيمان هو المعرفة، ولا ينفع مع الإيمان طاعة ولا يضر مع الإيمان معصية، فهؤلاء الغلاة الجهمية سبق ذكرهم آنفاً، والكلام هنا عن مرجئة الفقهاء.
قال رحمه الله تعالى: [ومن قال: إن الإيمان هو التصديق، ولا يدخل العمل في مسمى الإيمان، والكفر هو الجحود، ولا يزيدان ولا ينقصان؛ قال