قال رحمه الله تعالى: [ولذلك أطنب الشيخ في ذم الخوض في الكلام في القدر والفحص عنه.
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم).
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية حدثنا داود بن أبي هند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه، قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم والناس يتكلمون في القدر، قال: فكأنما تفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب، قال: فقال: ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟ بهذا هلك من كان قبلكم.
قال: فما غبطت نفسي بمجلس فيه رسول الله لم أشهده بما غبطت نفسي بذلك المجلس أني لم أشهده).
ورواه ابن ماجة أيضاً.
وقال تعالى: {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} [التوبة:69]، الخلاق: النصيب، قال تعالى: {وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:200] أي: استمتعتم بنصيبكم من الدنيا كما استمتع الذين من قبلكم بنصيبهم، وخضتم كالذي خاضوا، أي كالخوض الذي خاضوه أو كالفوج أو الصنف أو الجيل الذي خاضوا].
معنى (الذي خاضوا) أي: الذين خاضوا في الكلام في دين الله عز وجل بغير علم، وأول ذلك القدر، فكل الأمم -سواء الأمم الكتابية والأمم غير الكتابية- ضلت في القدر، أما الأمم الكتابية فقد ضلت بعد الهدى اليهود والنصارى، وأما الأمم غير الكتابية فمن الطبيعي أنها لم تهتد إلى الحق أصلاً، فقد قررت مسائل القدر بعقولها، فكل الأمم المنحرفة والضالة خاضت في القدر على نحو يختلف ويتناقض، وأخذوا في مسألة القدر مسالك شتى متناقضة ينقض بعضها بعضاً.
فالله عز وجل في هذه الآية ينهانا وينهى الأمة كلها عن أن تخوض كما خاض الذين سبقوا؛ لأن الخوض في مسائل القدر هو مفتاح الخوض في جميع مسائل الاعتقاد، وما خاض أحد في القدر إلا ضل؛ لأن القدر مبناه على التسليم.
وكذلك سائر أمور الغيب، لكن القدر هو أكثر أمور الغيب إعضالاً، والقدر يستهوي الحديث فيه النفوس، وأكثر الناس يجيد الخصام في القدر؛ لأن إثارة الشكوك فيه تقوم على الألغاز، فمن هنا يستهوي كثيراً من الناس الذين يصابون بمرض الثرثرة والكلام، فالمهم أن الأمم التي ضلت كان من أعظم من أسباب ضلالها الخوض في القدر، وقد نهينا أن نخوض في القدر، وكذلك غير القدر من أمور الغيب الأخرى.
قال رحمه الله تعالى: [وجمع سبحانه بين الاستمتاع بالخلاق وبين الخوض؛ لأن فساد الدين إما في العمل وإما في الاعتقاد، فالأول من جهة الشهوات، والثاني من جهة الشبهات].