قال رحمه الله تعالى: [هذه طريقة الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان، ثم خلف من بعدهم خلف سودوا الأوراق بتلك الوساوس التي هي شكوك وشبه، بل وسودوا القلوب وجادلوا بالباطل؛ ليدحضوا به الحق].
أول من فعل ذلك صنفان من الناس: أناس كانت عندهم هذه الوساوس بمثابة النزعات الفردية، وقد لا ترجع إلى أصول عقدية ذات قواعد أو إلى فرق أو نحل، وهذه كانت مصيبتها أسهل، وكان السلف الأوائل لهم منها مواقف قضت على هذه النزعات، كما حدث من بعض المشككين من أمثال صبيغ بن عسل التميمي، وذلك الشاب الذي جاء إلى ابن عباس وكان قد تمادى في الوسوسة في القدر، فجاء به أبوه إلى ابن عباس فأعطاه ابن عباس رضي الله عنهما درساً في ذلك حتى رجع واستقام، ومثلما حدث من بعض أهل الذمة، كـ قسطنطين بطريرك النصارى في الشام الذي سلم مفاتيح بيت المقدس لـ عمر، فقد حدثت منه تلك الحادثة بينما كان عمر يخطب بالجابية، فاعترض على القدر وهدده عمر بن الخطاب، وما حدث من بعض الخوارج كذلك، وما حدث من ابن الكوى وأمثاله.
فإن هذه الأمور كانت نزعات فردية لم تكن أصولاً فلسفية، ولا ترجع إلى فرق، فهذه النزعات كانت بمجرد أن تبدو وتظهر يقضى عليها بسرعة وبقوة وبحزم، وتنتهي إما بالقوة وإما بإقناع أصحابها بالدليل والبرهان.
الصنف الثاني: فرق سودت الكتب وظهر كلامها على شكل أصول، وأول ما ظهرت بعد سنة ستين للهجرة، وظهر كلامها على شكل اعتراض مقنن في مسائل القدر، يعني: كان كلامهم في القدر يحمل أصولاً وقواعد مستمدة من أهل الكتاب ومن الصابئة ومن المجوس، وكلهم تتشابه أقوالهم في القدر، وكان أصحاب هذا القول -أي: الفرق القدرية الأولى- عندهم نوع من التقعيد لمقولتهم، وهو تقعيد عقلاني وفلسفي، ولذلك لما ظهروا فتن بهم طوائف من أبناء المسلمين الذين قل فقههم في الدين ثم لما واجههم السلف كانوا مستعدين بالحجج العقلية والفلسفية، وأولهم معبد الجهني، ثم غيلان الدمشقي، ثم بعد ذلك تلقف هذا الاتجاه المعتزلة وصار أصلاً من أصولهم، وسموا بالقدرية فيما بعد.
ثم انتقلت هذه الأصول إلى كثير من الفرق فيما بعد، فدخل القول في القدر إلى الرافضة، ودخل إلى الجهمية، ثم قالت به الفرق الكلامية المتأخرة من الأشاعرة والماتريدية، أي: أنها قالت في بعض مسائل القدر بقول يخالف أصول أهل السنة والجماعة، وإن كانت في الأصول الكبرى في القدر تقول بقول أهل السنة، لكن عندها بعض المسائل التي تخالف فيها أهل السنة، مثل مسألة الاستطاعة ومسألة الحكمة والتعليل لأفعال الله عز وجل ونحو ذلك، وبعد ذلك صار القول بالقدر أصلاً من أصول كثير من الفرق إلى يومنا هذا.