[وقوله: (فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة): عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به؟ قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان).
رواه مسلم.
الإشارة بقوله: (ذاك صريح الإيمان) إلى تعاظمهم أن يتكلموا به.
ولـ مسلم أيضاً عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة؟ فقال: تلك محض الإيمان)، وهو بمعنى حديث أبي هريرة، فإن وسوسة النفس ومدافعة وسواسها بمنزلة المحادثة الكائنة بين اثنين، فمدافعة الوسوسة الشيطانية واستعظامها صريح الإيمان ومحض الإيمان].
يقصد بالوسوسة هنا الخواطر العابرة العارضة، فالوسوسة العارضة والأفكار العارضة والخواطر الطارئة قد لا يسلم منها الإنسان، لكنها ما لم تستقر في النفس لا تضر، وهي من محاولة الشيطان إغواء كل إنسان، فإن وجد الإنسان في نفسه يقيناً ودفعها فليعلم أنه بذلك حقق معنى الإيمان، وصريح الإيمان، بمعنى: أن مجرد الوسواس العارض لا يضره، والفارق بين الوسواس العارض والثابت أن الوسواس العارض يجد فيه الإنسان من نفسه نوعاً من الغرابة والإنكار، وشيئاً من النفرة، حيث تنفر منه النفس بالفطرة لاسيما الوساوس المقصودة هنا، وهي الوساوس التي تتعلق بأمور الغيب، بالقدر، أو بالله عز وجل وبأسمائه وصفاته وأفعاله، ونحو ذلك، فإن هذه الخواطر ترد إلى الإنسان، فالمؤمن لابد من أن يجد في نفسه كراهية لهذه الخواطر ويحاول دفعها بما عنده من مبدأ التسليم لله عز وجل واليقين بالله واليقين بالحق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا وجد ذلك فليعلم بذلك أنه -إن شاء الله- حقق معنى الإيمان.
إذاً: ليس المقصود بالوسوسة هنا الوسواس المستقر الذي هو بمثابة الشكوك، بل الوسوسة العارضة التي يسميها الناس أفكاراً وخواطر وخطرات تعرض، إما بسبب يرد إلى الإنسان من الأسباب المنظورة والمشاهدة والمحسوسة أو مما يسمعه من الناس، وإما من وسوسة الشيطان المحضة، لكنه إذا وجد في نفسه إنكاراً لهذه الوساوس فليعلم أن أصل الإيمان موجود عنده، وليحمد الله على ذلك.
إذاً: هناك نوع من الوسواس غير ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث، وهو الشكوك، سواء كان منشؤها الأمور العارضة الخارجة عن إرادة الإنسان أو الخارجة عن تفكير الإنسان بذاته، كما يحدث مما يقرؤه بعض الناس أو يسمعونه، أو ما يحدث من شبهات الفلاسفة والمتكلمين والدهريين وغيرهم، فهذا النوع إذا ورد على الإنسان فإن كان عنده شيء من الإيمان وقوة اليقين بالله عز وجل والفقه في دين الله؛ فإن ذلك لا يضر، وإن ضعف إيمانه وقل فقهه فربما تؤثر فيه الشبهات الواردة التي ترد من الناس أو ترد مما يسمعه أو يراه.
كما أن من الشكوك ما يثيره أهل الشكوك أنفسهم من الفلاسفة والدهريين والعقلانيين والكفار والمشركين والمنافقين، فهذه شكوك ثابتة في أنفسهم وليست عارضة، وتكون من أسباب تماديهم في الضلالة، وقد تؤثر هذه الشكوك على بعض مرضى القلوب من المسلمين إذا ضعف إيمانهم وقل علمهم.
ولذلك يجب على المسلم أن يحذر من قراءة الكتب التي تثار فيها هذه الإشكالات، ويجب ألا يتمادى في سماع ما يرد إلى سمعه من هذه الشكوك من الناس أو عبر الوسائل التي ترد فيها هذه الشكوك، كما أنه ينبغي أن يحصن نفسه ابتداء بمعرفة أصول الإيمان بالقدر؛ لأن الإنسان ضعيف، والواردات إلى ذهنه من خارج ذهنه أو من وساوس الشيطان في داخله كثيرة، فإذا وافقت ضعفاً في الإيمان وقلة في الفقه والعلم وعدم رسوخ في العقيدة فربما تؤثر على الإنسان، بل ربما يعتقد عقيدة باطلة من خلال هذه الوسوسة أو من خلال هذه الشكوك وهو لا يشعر.