قال رحمه الله تعالى: [وسر المسألة: أن الذي إلى الرب منها غير مكروه، والذي إلى العبد مكروه.
فإن قيل: ليس إلى العبد شيء منها، قيل: هذا هو الجبر الباطل الذي لا يمكن صاحبه التخلص من هذا المقام الضيق، والقدري المنكر أقرب إلى التخلص منه من الجبري، وأهل السنة المتوسطون بين القدرية والجبرية أسعد بالتخلص من الفريقين].
الجبرية هم الجهمية، وهم الذين يقولون: إن العبد مسير لا خيار له أبداً، فهو كالريشة في مهب الريح، وعلى هذا فإنه يكفيه في مسألة الحساب والجزاء أن يؤمن بالله بقلبه مهما فعل من الكفر والمعاصي حتى الشرك، تعالى الله عما يقولون! فمن أشرك بالله عندهم ما دام عارفاً بالله فهو مؤمن! فهؤلاء هم الجبرية الغلاة؛ لأنهم يرون أن الإنسان ليس له أي فعل وأن الفعل كله لله، فهؤلاء يقولون: ما دام الفعل كله لله فلا حساب على العباد إلا بما يتعلق بالمعرفة في القلب، فمن عرف الله نجا ومن أنكر الله هلك، وليس دون ذلك أي تفصيل.
فهؤلاء هم الجهمية، والجهمية ليست هي الجماعة المعهودة التي ظهرت في عهد جهم فحسب، بل بعد ذلك دخل التجهم في الفلاسفة والمتصوفة، خاصة ابن عربي ومن سلك طريقه قبله وبعده من غلاة الصوفية، هؤلاء جهمية خلص، وقد ذكر المحققون أن الجهمية فيما بعد دخلت في الصوفية فصار غلاة الصوفية جهمية، وكذلك دخل التجهم بعض فرق المسلمين.
والقدرية هم المعتزلة، فالمعتزلة بعكس الجهمية تماماً، يقولون: إن الإنسان مخير كل التخيير، وإنه مسئول عن أفعاله كل المسئولية، وإن الله عز وجل لم يقدرها، فأغلبهم أثبتوا العلم لكنهم نفوا التقدير، فالقدرية هم المعتزلة الذين يقولون: إن العبد مسئول عن أفعاله مسئولية كاملة، وهو خالقها، وإن الله لم يقدرها، ومن هنا رتبوا المسئولية الكاملة على العبد، فكفروا بالمعاصي، وجعلوا أصحاب الكبائر مخلدين في النار بناء على هذه الفلسفة.
وقد أثرت القدرية بعض التأثير في الفرق الكلامية التي ورثت المعتزلة فيما بعد، وإن كانت قامت ضدها أصلاً، لكنها ورثت بعض أصولها، كالرافضة ومتأخرة الخوارج، هؤلاء صاروا ورثة المعتزلة في القول بالقدر، أما الزيدية فأصلهم معتزلة.
والجبرية وجد شيء منها في الفرق الكلامية، وهي الأشاعرة والماتريدية، وليس المراد الجبر الغالي، لكنه نوع من الجبر.