قال رحمه الله تعالى: [فإن قيل: كيف يتأتى الندم والتوبة مع شهود الحكمة في التقدير، ومع شهود القيومية والمشيئة النافذة].
أي: كيف يطلب من العبد التوبة من المعاصي مع أنها حدثت بتقدير الله وحكمته؟! هذا منشأ السؤال.
قال رحمه الله تعالى: [قيل: هذا هو الذي أوقع من عميت بصيرته في شهود الأمر على خلاف ما هو عليه، فرأى تلك الأفعال طاعات لموافقته فيها المشيئة والقدر، وقال: إن عصيت أمره فقد أطعت إرادته].
هذا القول هو قول أغلب الصوفية، والعجيب أن هذا القول وجد في العباد الأوائل قبل أن تظهر الطرق الصوفية، فالعباد الأوائل النساك في أول القرن الثاني وما بعده هذا أصل كثير منهم، خاصة الجهلة؛ لأن العباد المشاهير منهم عندهم شيء من العلم، لكن الجهلة منهم -وهم كثير- هذا مبدؤهم، ولذلك دخلت من خلالهم هذه العقائد إلى الصوفية المتأخرة؛ لأنهم يرونهم قدوة لهم، والمتأمل لأحوال العباد الأوائل يجد أنهم تقمصوا عقائد كثير من الفرق التي وجدت في البلاد المفتوحة، خاصة العراق، فأغلب هذه الأقوال موجود أصلاً في عباد النصارى وفي عباد الهنود وموجودة عند طوائف من المجوس، فانتقلت إلى المسلمين عبر وراثة هذه العقائد عن أولئك القوم الذين، دخلوا في الإسلام ولم يتفقهوا في الدين، أو عن طريق الزنادقة الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا تلك العقائد ثم دعوا إليها.
قال رحمه الله تعالى: [وفي ذلك قيل: أصبحت منفعلاً لما يختاره مني ففعلي كله طاعات وهؤلاء أعمى الخلق بصائر، وأجهلهم بالله وأحكامه الدينية والكونية، فإن الطاعة هي موافقة الأمر الديني الشرعي، لا موافقة القدر والمشيئة، ولو كان موافقة القدر طاعة لكان إبليس من أعظم المطيعين له، ولكان قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وقوم فرعون كلهم مطيعين، وهذا غاية الجهل].
قد يظن بعض الناس أن هذا من باب الإلزام، لكنه في الحقيقة واقع، فهناك طوائف من هؤلاء القوم من المتصوفة الفلاسفة الزنادقة الباطنية، والذين يجمعهم كلهم ابن عربي الطائي الاتحادي صاحب وحدة الوجود الحلولي الجهمي، صرحوا بأن خصوم الأنبياء هم أصحاب الحقيقة والتوحيد، وصرح به ابن عربي أكثر من مرة في كتبه صراحة لا التواء فيها ولا غموض، وكرر ذلك تكراراً بيناً، وألف في ذلك كتباً ورسائل، حتى إنه صرح بأن خصوم الأنبياء من الأمم المشركة التي كفرت بالنبوة وبأنبياء الله ورسله أعرف بالتوحيد من الأنبياء وأتباع الأنبياء، وأنهم حينما دعا بعضهم إلى عبادة نفسه أو عبادة الأوثان ما قال إلا الحقيقة وما فعل إلا الحقيقة.
فهذا ليس من باب الإلزام فقط، وإن كان فعلاً يلزم من ألغى الحكمة والمشيئة ولم يفرق بين الأمر الشرعي وبين الأمر الكوني والقدري أن ينتج عنده أنه لا فرق بين التوحيد والشرك، فهذا إلزام فعلي عقلي وشرعي، لكنه حدث فعلاً، فتوصلوا إليه، وانتهى مذهبهم الباطل بقول ابن عربي، وصار مذهباً يحتذى إلى الآن في الفرق الباطنية في أكثر العالم الإسلامي، فالعالم الإسلامي الآن تنتشر فيه الفرق الباطنية، وأغلبها تتبنى هذا الرأي.
قال رحمه الله تعالى: [لكن إذا شهد العبد عجز نفسه، ونفوذ الأقدار فيه، وكمال فقره إلى ربه وعدم استغنائه عن عصمته وحفظه طرفة عين كان بالله في هذه الحال لا بنفسه، فوقوع الذنب منه لا يتأتى في هذه الحال البتة، فإن عليه حصناً حصيناً من (فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي)، فلا يتصور منه الذنب في هذه الحالة، فإذا حجب عن هذا المشهد وبقي بنفسه استولى عليه حكم النفس، فهنالك نصبت عليه الشباك والأشراك، وأرسلت عليه الصيادون، فإذا انقشع عنه ضباب ذلك الوجود الطبعي؛ فهنالك يحضره الندم والتوبة والإنابة، فإنه كان في المعصية محجوباً بنفسه عن ربه، فلما فارق ذلك الوجود صار في وجود آخر، فبقي بربه لا بنفسه].
هذا الكلام فيه إيهام، وإن كان قاله ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين، وابن القيم لاشك في أنه أراد بمثل هذا الكلام أن يجر جهلة الصوفية إلى التوحيد بعباراتهم، وأن يفسر لهم أقوال أئمتهم بتفسير أقرب إلى الحق والسنة، وأن يعبر عن الحق بتعبيراتهم من أجل أن يكمل الحق الذي أراد بيانه، لكن مع ذلك ينبغي ألا نجيز هذا بإطلاق؛ لأن المسلم الذي عوفي من هذه الأمور وهذه المصطلحات وهذه المفاهيم الأولى له ألا يخوض فيها وألا يتعلق قلبه ولا خاطره بمثل هذه الأمور، ولا يقرأ الكتب المتعلقة بتقرير هذه القضايا إلا للحاجة، أو أن يكون طالب علم متمكناً، فمدارج السالكين كتاب جيد، وقد أفاد فيه في تقريب جهلة الصوفية وغير المعاندين منهم إلى الحق، وشرح مصطلحات بمعنى أقرب إلى الحق، فسلم من الولوغ في الكفريات، لكنه لا يصلح لأهل السنة الذين سلموا أصلاً من هذه المصطلحات ولم يعرفوها ولم يسمعوا بها ولا توجد عندهم.
ولذلك فمثل هذا الكتاب يوصى بأن ينتشر في البلاد التي يكثر فيها التصوف أو تسود فيهم مصطلحات الصوفية، أما في البلاد التي سلمت فلا حاج