[وأما الوجه الثاني: -وهو الذي من جهة العبد- فهو أيضاً ممكن، بل واقع، فإن العبد يسخط الفسوق والمعاصي ويكرهها من حيث هي فعل العبد واقعة بكسبه وإرادته واختياره، ويرضى بعلم الله وكتابته ومشيئته وإرادته وأمره الكوني، فيرضى بما من الله ويسخط ما هو منه].
قوله: (ما هو منه) أي: من الإنسان نفسه.
قال رحمه الله تعالى: [فهذا مسلك طائفة من أهل العرفان، وطائفة أخرى كرهتها مطلقاً].
أي: كرهت المعاصي مطلقاً من كل وجه، لكنهم لا يقصدون كراهية كونها من الله عز وجل، إنما كرهوها فقالوا: إن المعاصي شر محض.
وسبب ذلك أنهم يرون أنها ما سميت معصية إلا من حيث فعلها من قبل العبد، وليست معصية بذاتها، بل لما فعلها صارت معصية، فمن هنا كرهوا المعصية مطلقاً.
والذين فرقوا رجعوا إلى أصل الفعل، أي: أصل الإقدار على المعصية، فقالوا: إن الإقدار على المعصية من الله عز وجل، وهذا فيه حكمة وهو خير، لكن فعل المعصية من العبد شر.
إذاً: الفريقان يلتقون على حكم واحد، وهو أن المعصية بذاتها من حيث فعلها من قبل العبد مكروهة كلها ومن حيث تقديرها من الله عز وجل ليست معصية، إنما صارت معصية بفعل العبد لها.
فالمعصية من حيث هي تبقى مجردة في الذهن حتى تقع، فإذا وقعت لا تكون إلا ممن يفعلها وهو العاصي، فلا تكون معصية فعلية واقعة إلا من فاعل، والفاعل هو العبد، أما قبل أن يفعلها فما هي إلا مجرد تصور في الذهن، والتصور في الذهن لا يبنى عليه حكم.
قال رحمه الله تعالى: [وطائفة أخرى كرهتها مطلقاً، وقولهم يرجع إلى هذا القول؛ لأن إطلاقهم الكراهة لا يريدون به شموله لعلم الرب وكتابته ومشيئته].
بمعنى أنهم لا يكرهون صدورها عن الله عز وجل من حيث إنه علمها وقدرها وشاءها، إنما يكرهونها لذاتها من حيث كونها معصية، وما صارت معصية إلا حينما فعلها العبد.