الشبهة العقلية هي قاعدة المتكلمين الأوائل التي استقرت عند الرازي قبل أن يرجع إلى مذهب أهل السنة والجماعة، فهو رجع وسلم لمذهب السلف، لكن بعد فوات الأوان؛ إذ ما استطاع أن يلغي ما قاله، ولا أن يقنع الناس بأن يعدلوا عما كتب، وإن كان نصح أصحابه، لكنهم لم يأخذوا بنصيحة الناصحين.
وشأن الرازي وأمثاله ممن وضعوا هذه القواعد ثم تابوا منها أن مثلهم ومثل أتباعهم اليوم كمثل رائد قوم صار في طريق وفجأة رأى أمامه هوة سحيقة، فأدرك الخطر هو فرجع، وأنذر أصحابه، لكن الذين تبعوه أبوا إلا أن يسقطوا في الهوة، وهذا هو شأن المتكلمين الذين يتبعون هؤلاء الكبار الذين رجعوا عن علم الكلام.
والعجيب: أن أغلب كبار المتكلمين رجعوا عن علم الكلام، الأمر الذي يقيم الحجة على أتباعهم إلى اليوم، فيقال لهم: كيف تسلكون مسالك تاب أصحابها منها، وتبرءوا إلى الله منها في حياتهم بحرية كاملة، فلم يكرهوا على ذلك، ونهوا عنها بإشفاق ونصيحة.
وهذه مسألة عارضة، لكن أحببت التنبيه حتى يتبين عوار هذه القواعد من مؤسسيها، وإن كان لها أتباع، فمسألة الأتباع ليست دليلاً، بل الشيطان له من يعبده الآن.
وقاعدة الرازي ذكرها شيخ الإسلام وأجاب عليها في كتب مطولة كما سأشير إليه بعد قليل، وذكرها الرازي في كتابه: (تأسيس التقديس)، وهو مطبوع الآن ومنشور بعناية.
في هذا الكتاب أراد الرازي أن يقرر مسألة مجرد تصورها يصادم الفطرة والعقل السليم، وملخصها أنه يقول: إن دلالة العقل قطعية، ودلالة الشرع ظنية، كذا بإطلاقه! فإذا تعارض النقل مع العقل أخذنا بالقطعي وهو العقل.
وظاهر هذه العبارة ينطلي على من لم يفقه في الدين، وهذا ملخص القاعدة الذي انتهت إليه، وإلا فقد صاغها بأكثر من هذا، ثم أيدها من خلال كتابه: تأسيس التقديس.
والعجيب أنه لما أراد أن يثبت أن دلالة الشرع ظنية أوقع الأمة في شبهات خطيرة، فصارت قاعدته مذهباً أوجد تشكيكاً عند كثير من مفكري الأمة من وقته إلى يومنا هذا، حتى إنهم وقعوا في الشكوك ولم يخرجوا منها، حتى الرازي نفسه اعترف نظراً لمجاراته لهذه القاعدة بأنه كثيراً ما يثير الشبهة ولا يستطيع أن يجيب عليها.