قال رحمه الله تعالى: [(فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالمه): أي: سلم لنصوص الكتاب والسنة، ولم يعترض عليها بالشكوك والشبه والتأويلات الفاسدة، أو بقوله: العقل يشهد بضد ما دل عليه النقل، والعقل أصل النقل، فإذا عارضه قدمنا العقل! وهذا لا يكون قط.
لكن إذا جاء ما يوهم مثل ذلك؛ فإن كان النقل صحيحاً فذلك الذي يدعى أنه معقول إنما هو مجهول، ولو حقق النظر لظهر ذلك، وإن كان النقل غير صحيح فلا يصلح للمعارضة، فلا يتصور أن يتعارض عقل صريح ونقل صحيح أبداً.
ويُعارَض كلام من يقول ذلك بنظيره، فيقال: إذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم النقل؛ لأن الجمع بين المدلولين جمع بين النقيضين، ورفعهما رفع النقيضين، وتقديم العقل ممتنع؛ لأن العقل قد دل على صحة السمع ووجوب قبول ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، فلو أبطلنا النقل لكنا قد أبطلنا دلالة العقل، ولو أبطلنا دلالة العقل لم يصلح أن يكون معارضاً للنقل؛ لأن ما ليس بدليل لا يصلح لمعارضة شيء من الأشياء، فكان تقديم العقل موجباً عدم تقديمه، فلا يجوز تقديمه.
وهذا بين واضح، فإن العقل هو الذي دل على صدق السمع وصحته، وأن خبره مطابق لمخبره، فإن جاز أن تكون الدلالة باطلة لبطلان النقل؛ لزم أن لا يكون العقل دليلاً صحيحاً، وإذا لم يكن دليلاً صحيحاً لم يجز أن يتبع بحال، فضلاً عن أن يقدم، فصار تقديم العقل على النقل قدحاً في العقل].
هذا الكلام الذي أورده الشارح ينقسم إلى نوعين: نوع في تقرير الشبهة أي: شبهة المتكلمين الذين قدموا العقل على الشرع، ونوع آخر هو رد هذه الشبهة، وكل ذلك لخصه الشارح من كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية: درء التعارض.
وهذه القاعدة هي الفارق بين نهج السلف ونهج المتكلمين من متأخرة الأشاعرة والماتريدية في القرن السادس وما بعده، حينما استقر عندهم علم الكلام بأصول عقلانية مقعدة جعلتهم يأخذون بأصول الجهمية والمعتزلة، وأصول الفلاسفة في الموقف من كتاب الله تعالى، ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقيدة، أما في الأحكام فقد لا يختلفون كثيراً مع السلف.
ولعله من المناسب أن نأخذ هذه القضايا التي أشار إليها الشارح قضية قضية حتى لو استغرقت أكثر من درس، فهذا المقطع مهم في نظري وخطير؛ نظراً لأنه يتعلق بأصول مذاهب موجودة، وبقواعد يمكن أن يسلكها كثير من العقلانيين، بل سلكها كثير من العقلانيين المعاصرين، ثم إنها بدأت الآن تخرج أعناقها حينما اهتم خلف هؤلاء المتكلمين من المعاصرين بكتبهم وأخرجوها.
وأرى في السنتين الأخيرتين بالذات حشداً هائلاً من كتب المتكلمين التي خرجت مطبوعة بعناية وبدعاية تفوق دعاية كتب السلف.
وقد انبرى لهذا الاتجاه طائفة من المتكلمين المعاصرين صغاراً وكباراً، فأصبحوا يدافعون عن هذا التوجه العقلاني ويدعون إليه من جديد، وبدأ يتجذر في عقول كثير من شباب الأمة في الآونة الأخيرة.
فمن هنا لعلنا نخرج عن القاعدة التي درجنا عليها، وهي أن الأمور الفلسفية لا نتعمق فيها، فنستثني مثل هذه الأمور للضرورة.