قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وذهب قوم من المتفلسفة وغالية المتصوفة إلى أن الدعاء لا فائدة فيه! قالوا: لأن المشيئة الإلهية إن اقتضت وجود المطلوب فلا حاجة إلى الدعاء، وإن لم تقتضه فلا فائدة في الدعاء! وقد يخص بعضهم بذلك خواص العارفين! ويجعل الدعاء علة في مقام الخواص! وهذا من غلطات بعض الشيوخ، فكما أنه معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام فهو معلوم الفساد بالضرورة العقلية، فإن منفعة الدعاء أمر اتفقت عليه تجارب الأمم، حتى إن الفلاسفة تقول: ضجيج الأصوات في هياكل العبادات، بفنون اللغات، يحلل ما عقدته الأفلاك المؤثرات! وهذا وهم مشركون.
وجواب الشبهة بمنع المقدمتين، فإن قولهم عن المشيئة الإلهية: إما أن تقتضيه أو لا، فثمّ قسم ثالث، وهو: أن تقتضيه بشرط لا تقتضيه مع عدمه، وقد يكون الدعاء من شرطه، كما توجب الثواب مع العمل الصالح ولا توجبه مع عدمه، وكما توجب الشبع والري عند الأكل والشرب، ولا توجبه مع عدمهما، وحصول الولد بالوطء، والزرع بالبذر، فإذا قدر وقوع المدعو به في الدعاء لم يصح أن يقال: لا فائدة في الدعاء، كما لا يقال: لا فائدة في الأكل والشرب والبذر وسائر الأسباب، فقول هؤلاء كما هو مخالف للشرع فهو مخالف للحس والفطرة.
ومما ينبغي أن يعلم ما قاله طائفة من العلماء، وهو أن الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، ومعنى التوكل والرجاء يتألف من وجوب التوحيد والعقل والشرع.
وبيان ذلك: أن الالتفات إلى السبب هو اعتماد القلب عليه، ورجاؤه والاستناد إليه، وليس في المخلوق ما يستحق هذا؛ لأنه ليس بمستقل، ولا بد له من شركاء وأضداد، مع هذا كله، فإن لم يسخره مسبب الأسباب لم يسخر.
وقولهم: إن اقتضت المشيئة المطلوب فلا حاجة إلى الدعاء! قلنا: بل قد تكون إليه حاجة، من تحصيل مصلحة أخرى عاجلة وآجله، ودفع مضرة أخرى عاجلة وآجلة، وكذلك قولهم: وإن لم تقتضه فلا فائدة فيه، قلنا: بل فيه فوائد عظيمة من جلب منافع ودفع مضار، كما نبه عليه النبي صلى الله عليه وسلم، بل ما يعجل للعبد من معرفته بربه وإقراره به، وبأنه سميع قريب قدير عليم رحيم، وإقراره بفقره إليه، واضطراره إليه، وما يتبع ذلك من العلوم العلية والأحوال الزكية، التي هي من أعظم المطالب.
فإن قيل: إذا كان عطاء الله معللاً بفعل العبد، كما يعقل من إعطاء المسئول للسائل، كان السائل قد أثر في المسئول حتى أعطاه؟! قلنا: الرب سبحانه هو الذي حرك العبد إلى دعائه، فهذا الخير منه وتمامه عليه، كما قال عمر رضي الله عنه: إني لا أحمل هم الإجابة، وإنما أحمل هم الدعاء، ولكن إذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه، وعلى هذا قوله تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5] فأخبر سبحانه أنه يبتدئ بتدبير الأمر، ثم يصعد إليه الأمر الذي دبره، فالله سبحانه هو الذي يقذف في قلب العبد حركة الدعاء، ويجعلها سبباً للخير الذي يعطيه إياه، كما في العمل والثواب، فهو الذي وفق العبد للتوبة، ثم قبلها، وهو الذي وفقه للعمل ثم أثابه، وهو الذي وفقه للدعاء ثم أجابه، فما أثر فيه شيء من المخلوقات، بل هو جعل ما يفعله سبباً لما يفعله، قال مطرف بن عبد الله بن الشخير أحد أئمة التابعين: نظرت في هذا الأمر، فوجدت مبدأه من الله، وتمامه على الله، ووجدت ملاك ذلك الدعاء] .
وهذا يتعلق بالدعاء الذي أمر الله به والذي حث عليه النبي صلى الله عليه وسلم، والذي نهجه علماء الأمة وحثوا عليه ورغبوا فيه، وهو سؤال الله تعالى الحاجات، فعلى العبد أن ينزل حاجاته بربه، وأن يسأله قضاءها، وأن يرغب إليه بأن ييسر كل يسير، وأن يعطيه كل مطلب، وقد تقدمت أدلة تفيد الأمر بالدعاء والحث عليه، مثل قوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] من هو الذي يجيبه؟ هو الله.
ولما قال الصحابة: (يا رسول الله أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه أنزل الله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] ) فهذا خبر من ربنا تعالى أنه قريب وأنه يجيب دعوة من دعاه، وكما أمر بذلك في قوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] .
وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الدعاء وأخبر بأنه عبادة في قوله: (الدعاء هو العبادة، وقرأ هذه الآية: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر:60] ) ، وكذلك حث عليه الصلاة والسلام على الإكثار من الدعاء، وروي عنه أنه قال: (إن الله يحب الملحين في الدعاء) والإلحاح: هو تكرار الدعاء والإكثار منه.