معلوم أن من الأمور الاعتقادية ما يكفر بمخالفته، ومنها ما لا يكفر بمخالفته، وقد تقدم لنا في هذه العقيدة ذكر المسح على الخفين، وهو من الفروع العملية التي لا يكفر المخالف فيها، فقد خالف فيه بعض الصحابة وبعض الأئمة، ولكن استقر قول أهل السنة على القول به، وجاءت مسألة أخرى من الفروع، وهي إهداء الأعمال إلى الأموات أو الأحياء، فهي من المسائل الفرعية، ولا يكفر المخالف فيها وإن ذكرت في العقيدة، وذلك لأنهم: أولاً: قد تمسكوا بقول الله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] .
وثانياً: لهم واجتهاد اجتهدوه، فلأجل ذلك لم يكفروا بمثل ذلك ولكنهم مخطئون.
إنما كان إهداء الأعمال إلى الأحياء أو الأموات من مسائل العقيدة؛ لأن الخلاف فيه مع المخالفين في العقيدة، ومعلوم أن العقيدة هي الأسماء والصفات، والبعث بعد الموت، واليوم الآخر، والإيمان بالملائكة، والرسل، والكتب المتقدمة، ولا شك أن هذه من الأمور الاعتقادية، ولكن تلحق بها أيضاً أمور عملية، وتعطى حكم العقيدة، وإن لم تكن من العقيدة التي يعقد عليها القلب، بمعنى: أنه يؤمن بها وإن لم ير لها دلالات، وقد يكون إدخال إهداء الأعمال إلى الأموات أو الإحياء في العقيدة من باب أنه أمر غيبي، يعني: أننا لا ندري هل يصل إلى الأموات ثواب هذه الأعمال، أو لا يصل إليهم؟! ولكن لما جاءت شواهد ودلائل تدل على أنه ينتفع الميت بعمل الحي إذا أهداه إليه، قال بذلك أهل السنة، فنراهم يصلون على الأموات، لأن الأموات ينتفعون بصلاتهم عليهم، ونراهم يدعون لهم، فيدعو أحدهم لأبويه ولأمواته، كقول نوح عليه السلام: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} [نوح:28] فقد ذكروا أن والديه كانا مسلمين.
والنهي عن الاستغفار للمشركين ولو كانوا أولي قربى، يدل على أنهم لو كانوا مسلمين لانتفعوا بهذا الاستغفار، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم حضر موت عمه أبي طالب وطلب منه أن ينطق بالشهادة فلم يفعل، وكان آخر كلامه أن قال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لأستغفرن لك ما لم أنه عنك) فأنزل الله {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى} [التوبة:113] ، ومفهومه: أن لهم أن يستغفروا للمسلمين، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (استأذنت ربي أن أزور قبر أمي فأذن لي، واستأذنته أن أستغفر لها فمنعني) يعني بعموم هذه الآية: (ولو كانوا أولي قربى) فهذا يفيد: أنهم ينتفعون بالاستغفار إذا كانوا مؤمنين، ولا ينتفعون به إذا كانوا مشركين، ومعلوم أن الاستغفار دعاء، فإنه إذا قال: رب اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين، فقد دعا الله لنفسه ولوالديه وللمؤمنين، وهذا الدعاء يفيد وينفع.
وقد اشتهر الاستدلال بعموم الآيات مثل قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَان} [الحشر:10] فنحن نقول: ندعو لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان قديماً وحديثاً، فندعو للصحابة وبيننا وبينهم عدة قرون، وللتابعين وللأئمة وللعلماء في كل قرن وفي كل زمان، فإن هذه دعوة آبائنا وأجدادنا ومن خلفنا وإخواننا وأقاربنا وأصحابنا وأصدقائنا من المؤمنين الذين سبقونا بالإيمان، فلا شك أن ذلك ينفعهم.
ورد في بعض الكتب أن إنساناً رأى بعض الأموات في منامه فأخبره ذلك الميت بأنه يأتيهم من دعاء الأحياء أمثال الجبال من الهدايا، التي هي دعاء وصدقات وأعمال ونحو ذلك، تنور عليهم قبورهم وتزداد بها حسناتهم، وتحط بها سيئاتهم.
والأعمال التي تهدى إليهم كثيرة منها الدعاء، ولا شك في انتفاع المدعو به إذا كان الداعي والمدعو له أهلاً لذلك.
ومنها الصدقة: وقد دل عليها الحديث الذي فيه: (إن أمي افتلتت نفسها ولم تتصدق، وأظنها لو تكلمت تصدقت، ألا أتصدق عنها؟ قال: نعم) .
ومنها الحج: وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أذن للخثعمية أن تحج عن أبيها مع أنه حي ولكنه لا يستطيع الثبوت على الراحلة، وسمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة، فقال: (أحججت عن نفسك؟ قال: لا، فقال: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة) فأفاد بأنه ينتفع إذا حج عنه، ولو كان بعيداً في النسب، ما دام أنه حج عنه وأهدى إليه عمل حجته.
وكل ذلك يفيد أن الأموات ينتفعون بإهداء أعمال الحي، وقد تقدم لنا التفصيل في ذلك، وعرفنا القول الصحيح والأدلة عليه.