قال رحمه الله: [فالرسول صلوات الله وسلامه عليه لما بين لنا أموراً لم تكن معروفة قبل ذلك، وليس في لغتهم لفظ يدل عليها بعينها، أتى بألفاظ تناسب معانيها تلك المعاني، وجعلها أسماءً لها، فيكون بينها قدر مشترك، كالصلاة، والزكاة، والصوم، والإيمان، والكفر.
وكذلك لما أخبرنا بأمور تتعلق بالإيمان بالله وباليوم الآخر، وهم لم يكونوا يعرفونها قبل ذلك حتى يكون لهم ألفاظ تدل عليها بعينها، أخذ من اللغة الألفاظ المناسبة لتلك بما تدل عليه من القدر المشترك بين تلك المعاني الغيبية والمعاني الشهودية التي كانوا يعرفونها، وقرن بذلك من الإشارة ونحوها ما يعلم به حقيقة المراد، كتعليم الصبي، كما قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: الناس في حجور علمائهم كالصبيان في حجور آبائهم] .
فهمنا أن الرسول عليه الصلاة والسلام استعمل معاني لم تكن معروفة عند العرب، ولكن عبر عنها بما يقاربها من كلمات يفهمون معناها، فما كانوا يعرفون أن الشرك هو عبادة غير الله معه، ولكن يعرفون أن الشرك اشتراك اثنين في شيء، فتسمية عبادة غير الله مع الله مثل اشتراك اثنين في شيء، فسماه شركاً لما فيه من الاشتراك.
وكانوا يعرفون أن الكفر هو الستر والتغطية، فلما كان الكافر قد أنكر الإيمان وأنكر التوحيد وجحده وستره صدق عليه أنه كفر، فسماه الرسول بأمر الله كفراً.
وما كانوا يعرفون أن الإيمان هو الدخول في هذه الشريعة وتقبلها، بل يعرفون أن الإيمان هو تصديق الإنسان بقلبه بشيء، فلما جاء بهذه الكلمة جعلها اسماً للتصديق الكلي بما جاء في هذا الشرع، فهذا تصديق وذاك تصديق، ولكن هذا بشيء وذاك بشيء.
وكذلك ما كانوا يعرفون كلمة الإسلام إلا أنها الإذعان للشيء والاستسلام له، فاستعمل الإسلام في الإذعان للشرع والانقياد له، وما كانوا يعرفون أن الصلاة هي الركوع والسجود، فاستعملها في هذا؛ لأنهم كانوا يعرفون أن الصلاة هي الدعاء، وهذه فيها دعاء.
وهكذا علمهم عليه السلام أسماء هذه الأشياء، ثم علمهم كيفيتها، فلما سئل عن الإسلام فسره بالأركان الخمسة، ولما سئل عن الإيمان وعن الإحسان فسرها.
فإذا كان هذا تعليمه لأمته هذه الكلمات فيما يقاربها من اللغة التي يفهمونها، فهو بمنزلة المعلم، الذي يعلم تلاميذه ويبدأ معهم بصغار العلم قبل كباره، ويربيهم بذلك، والله تعالى قد أرشد إلى هذه الطريقة بقوله تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79] فهكذا ينبغي أن يعرف ويعتقد أن الرسل بلغوا وبينوا للناس الأمور الغيبية والأمور الاصطلاحية الشرعية على حسب ما يفهمون، وأن أممهم فهموا منهم ذلك فهماً كاملاً.