قال رحمه الله: [إذا عرف ذلك، فالمخاطب المتكلم إذا أراد بيان معان، فلا يخلو: إما أن تكون مما أدركها المخاطب المستمع بإحساسه وشهوده، أو بمعقوله، وإما أن لا تكون كذلك.
فإن كانت من القسمين الأولين لم يحتج إلى معرفة اللغة، بأن يكون قد عرف معاني الألفاظ المفردة، ومعنى التركيب، فإذا قيل له بعد ذلك: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ} [البلد:8-9] ، أو قيل له: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78] ونحو ذلك، فهم المخاطب بما أدركه بحسه.
وإن كانت المعاني التي يراد تعريفه بها ليست مما أحسه وشهده بعينه، ولا بحيث صار له معقول كلي يتناولها حتى يفهم به المراد بتلك الألفاظ، بل هي مما لا يدركه بشيء من حواسه الباطنة والظاهرة، فلابد في تعريفه من طريق القياس، والتمثيل، والاعتبار بما بينه وبين معقولات الأمور التي شاهدها من التشابه والتناسب، وكلما كان التمثيل أقوى كان البيان أحسن، والفهم أكمل] .
الرسل عليهم السلام بينوا للناس أشياء يشاهدونها، وبينوا أشياء لم يشاهدوها ولكن شاهدوا ما يشهد لها، فمثلاً: العبادات وضحوها، فقالوا: هذا اسمه وضوء، وهذه كيفيته، وهذه الصلاة، وهذه كيفيتها، هذا من جملة البيان.
كذلك بلغوا أشياء لم نشاهدها، وعبروا عنها بعبارة نفهمها، فمثلاً: اليوم الآخر الذي هو يوم القيامة، ما شاهدناه، حيث إنه لم يقع بعد، ولكن ذكرت لنا أوصافه بكلمات مفردة وجمل نفهم المعنى منها، فأخبر بأن الناس يبعثون، وتعاد أرواحهم في أجسادهم، وهذا مفهوم معناه، وكذلك جمع الناس في يوم القيامة مفهوم معناه: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] وكذلك نصب الموازين والوزن للأعمال: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:47] فالوزن معروف.
وكذلك الإخبار بنشر الكتب: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً} [الإسراء:13] ، فنحن ما رأيناه ولكن نفهم معناه، وهذه الأمور التي أخبرنا بها ونحن لم نرها فهمنا معناها، حيث إن جنس هذه الكلمات معروف، فالوزن في الدنيا معروف، ولكن ليس الوزن في الدنيا كالوزن في الآخرة، بل بينهما فرق، إلا أن كلاً منهما فيه ميزان يرجح وينقص.
وكذلك الصراط الذي أخبر بأن الناس يمشون عليه، فالصراط في الدنيا معروف؛ وهو الطريق الواسع، ولكن أخبر في الآخرة بأن هذا الصراط منصوب وأخبر بصفته، فنؤمن بذلك، ولكن نعتقد أنه ليس كالذي نعرفه في الدنيا.
وهكذا أيضاً الكتب التي تنشر في الآخرة: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ} [الإسراء:13-14] كل يقرأ كتابه؛ الأمي وغير الأمي، معلوم أن هذا ليس ككتاب الدنيا الذي لا يقرؤه إلا القارئ، فعرف بذلك أنهم أخبروا بأشياء من الغيب مفهوم معناها، وإن لم تفهم كيفيتها.
لذلك يعرف أن الإيمان بالأمور الغيبية لابد من فهم معناه، فلو أن الناس ما فهموا كلمة النار، وجهنم، وسقر، والسعير، ونار تلظى، ونار موقدة، ونار حامية، لما خافوا ولا بكوا، ولا حذروا ولا ابتعدوا عن المعاصي التي تدخلهم في هذه النار، ولكن فهموا أنها نار عذاب، وأنها عذاب وبيل، واعتقدوا صحة ما جاء فيها من الحميم والزقوم، والغساق، وما أشبهه.
ولو أن الناس ما فهموا معنى (جنات النعيم) و (دار السلام) وما أشبهها، وما فيها من الحبور، وما فيها من القصور والأنهار والأشجار والثمار، لما عملوا لأجلها، فلابد أنهم فهموها.
فإذاً: الذين آمنوا بالآخرة وآمنوا بالغيب، فهموا معنى ذلك، فيقاس على ذلك فهمهم لمدلول الصفات وإن لم يكن هناك تماثل حقيقي، ولهذا يقول ابن عباس: (ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء) يعني: أنها تتشابه في الأسماء، وتتشابه في المعنى العام، الله تعالى أخبر بأن في الجنة أنهاراً، ومع ذلك تجري في غير أخدود، هل يتصور أنها تجري في الدنيا على الأرض بغير أخدود؟! يعني: في غير حفر وسواق، هذا من آيات الله! وكذلك المنازل التي في الآخرة، أخبر في الحديث (بأنه يرى باطنها من ظاهرها، وظاهرها من باطنها) فهذا دليل على أننا نعرف أنها قصور، وأنها مبنية، وأنها من لؤلؤ ومن زبرجد، ولكن ليست مثلما ندركه، فهذا دليل على أن أمور الآخرة نفهم معناها، ولكن كيفيتها لا ندركها، فيقال مثل ذلك أيضاً في الصفات.