فالإنسان مخلوق لعبادة الله، مأمور بأن يشغل كل أعماله، وكل أفكاره، وكل جوارحه، بعبادة الله، فنظره يجعله كله عبادة، فلا ينظر إلا نظر اعتبار، ولا ينظر إلا نظر رحمة، ولا ينظر إلا فيما ينفعه، فإذا نظر فيما يضره، أو نظر إلى ما لا يحل له، فقد عصى الله بهذا النظر، وكذلك سمعه الذي جعله الله واسطة يسمع به الأصوات، هو نعمة من الله، مأمور بألا يستعمله إلا في الشيء الذي ينفعه مأمور بأن يستمع به الوعظ والعلم والخير والإرشادات والتوجيهات والكلمات النافعة، ولا يستمع به ما يضره، فلا يستمع للهو ولا للعب، ولا يستمع النياح ولا القهقهة، ولا الشيء الباطل، ولا يستمع إلى غيبة أو نميمة أو نحوها، إن استمع إلى ذلك فقد كفر هذه النعمة وما شكرها.
وهكذا نعمة النطق، هذا اللسان الذي أنطقه الله، وجعله معبراً عن حاجته، لابد أنه يستعمله في الشيء الذي ينفعه، فإذا صانه وحفظه ولم يتكلم إلا بخير، وجعله مستعملاً في الذكر وفي الشكر وفي الاعتبار، وفي الأمر بالخير والدلالة عليه، وفي النهي عن الشر والتحذير عنه، وكذلك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي الشيء الذي ينفع من ذكر الله وما والاه، والإصلاح بين الناس ونحو ذلك، على حد قول الله تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114] ، فإذا فعل ذلك اعتبر شاكراً لهذه النعمة، وإذا تكلم فيما لا يعنيه، أو تكلم بما لا يجوز له اعتبر كافراً لهذه النعمة.
وهكذا يقال في التفكير، العقل الذي مَنَّ الله به على الإنسان، واستعمله فيما ينفعه، ففكر في آيات الله، وفكر في مخلوقاته، وتدبر آياته، وتدبر ما بين يديه وما خلفه، وتدبر أول الأمر وآخره وما أشبه ذلك؛ اعتبر شاكراً لذلك، ولكن إذا صرف شيئاً من ذلك فيما يضره، فقد كفر هذه النعمة، وذلك كما إذا جاء تفكيره وتعقله في أموره الدنيئة، أو في الكيد للإسلام والمسلمين، أو بتدبير الشئون الدنيوية ونسي الأمور الدينية أو ما أشبه ذلك؛ اعتبر كافراً بنعمة العقل.
وهكذا يقال في نعمة الجوارح، فاليدان يستعملهما ويبطش بهما في الشيء الذي يقربه إلى الله، والرجلان يسير بهما في الشيء الذي ينفعه، والمأكل والمشرب لا يدخله إلا الشيء الذي يفيده وينفعه.
ومعلوم أن الناس في هذا لابد أن يقعوا في أخطاء.
إذاً: فكيف مع ذلك يزكون أنفسهم؟! ويدعون أنهم من المقربين؟! وأن حقاً على الله أن يعطيهم؛ وأنه إذا لم يعطهم اعتبر ظالماً لهم؛ وأنه إذا عاقبهم وسلط عليهم الفقر والفاقة ونحو ذلك فهو ظلم منه لهم وما أشبه ذلك؟! نقول: لا شك أن هذا سوء ظن بالله تعالى، وأنه حسن ظن بأنفسهم، والإنسان عليه أن يرجع إلى نفسه بأن يلومها غاية اللوم، وأن ينسب التقصير إليها، وأن يحاسبها أشد المحاسبة، فبذلك يكتبه الله تعالى من أهل الرحمة، ومن أهل الثواب.
أما إذا لم يحاسب نفسه، بل اعتقد أنه من المحسنين، وأنه من المتقين، وأنه قد فعل وفعل، وأخذ يمدح نفسه، وأخذ يرفع من شأنه، ويفضل عمله على عمل غيره؛ فإن في هذا ما يسبب بطلان عمله ورده عليه.
وإذا كان نبينا صلى الله عليه وسلم يعترف بأنه لا يدخل الجنة إلا إذا رحمه الله بقوله: (ولا أنا؛ إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل) ، وكذلك من الملائكة من هم سجود من حين خلقوا إلى يوم القيامة، وإذا كان يوم القيامة يقولون: يا ربنا! سبحانك ما عبدناك حق عبادتك.
فكيف بنا نحن الذين قد أضعنا الكثير من حياتنا؟! والذين قد اتبعنا كثيراً من الأهواء، وقد أطعنا النفوس، ومع ذلك نزكي أنفسنا! والله تعالى يقول: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32] ؟! فعلى المسلم أن يعتقد أن الله سبحانه هو أرحم بعباده، فيأتي بأسباب الرحمة، ويعتقد بأنه إذا لم تعمه رحمة الله فإنه خاسر، وأنه جعل للرحمة أهلاً، فقال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:156] إلى آخر الآيات، ذكر أهلها، هؤلاء هم أهل الرحمة، فليس كل من تمناها تحصل له، إذاً فليس أحد ينجيه عمله إلا برحمة الله، ورحمة الله لها أهل، وأسباب الرحمة سهلة ويسيرة على من يسرها الله عليه.